جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إنهم يكتسبون القيمة من خلال الاستعراض

 

فى الآونة الأخيرة، ثارت نقاشات متعددة حول ما يشهده المجتمع من مظاهر يرى البعض أنها غريبة على المجتمع المصرى، خاصة الحفلات التى تقام فى الساحل الشمالى، ويحضرها أفراد من أبناء الطبقات المترفة ذات الدخول العالية. 

نحن إذن أمام حالة من التفاخر المبالغ فيه، واستعراض الثراء، وهو أمر لا يحدث فى الساحل فقط، بل يحدث أيضًا فى المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، إلى أن امتد الأمر إلى الأقاليم. 

المتفاخرون يحاولون اكتساب القيمة عبر اقتناء بعض المجوهرات الثمينة للنساء، والسيارات الفارهة لشباب لم يصل إلى العشرين بعد أو تجاوزها بقليل، أو عبر إكسسوارات مثل الساعات والنظارات باهظة الثمن... إلخ. وهذه حالة نموذجية لما يطلق عليه «هوس الاستعراض».

بالطبع لا يوجد من يعترض على امتلاك الأشخاص الأثرياء أشياء ثمينة، سوف يتساءل البعض عن جدوى ارتداء هذه الأشياء على البحر الذى عادة ما تتصف الأشياء فيه بالبساطة على أى مستوى؟!!. وربما يكون الأمر له علاقة بالفراغ الداخلى وسيطرة ثقافة الاستعراض التى سادت ربما خلال أكثر من ٣٠ عامًا.

لقد أدت ظواهر مثل الكسب السريع والفساد، والثراء، والاقتصاد السرى إلى تصحر العقول وتراجع قيمة العمل إلى مثل هذه الحالة، وبالتالى أصبحنا مع وضع تتراجع فيه قيم العمل الجاد.

وبرغم هذا الثراء المفاجئ والفوائض المالية غير المعهودة وغير المبررة فمن الواضح أن هؤلاء المتفاخرين يفتقدون إلى الشعور بالمكانة، وليس جديدًا القول إن هذه الحالة تؤشر على التراجع فى القيم، ليس على مستوى طبقة بعينها أو فئة من المواطنين بل على الجميع لا سيما مع الإلحاح على الاستهلاك، فى ظل الانفتاح العولمى الذى يخلق رغبة محاكاة النمط الاستهلاكى فى الدول الرأسمالية المتقدمة، وهى صورة وهمية متخيلة عن الغرب. 

فى مجتمع مثل مجتمعنا لم يتحول إلى مجتمع رأسمالى منتج، مثل المجتمعات الرأسمالية فى الشمال والغرب، وبعد تحول الرأسمالية إلى ظاهرة معولمة، تمت ملاحظة أن مثل هذه المجتمعات تعانى من اضطراب مفهوم الاستهلاك، ونصبح أمام وضع محدد فيه نمطان، الأول يتعلق بالاحتياجات اللازمة للبقاء، وهو ما نجده فى الفئات الأقل دخلًا، والأكثر هامشية فى العمليات الإنتاجية، والنمط الثانى هو النمط الاستهلاكى يروج له بشكل ممنهج عبر الإعلان والدعاية، وحصر مفهوم السعادة والحياة النموذجية فى الاستهلاك، هكذا يصبح من المألوف أن يسعى الجميع وراء الحصول على منتجات بعينها فى الطعام والشراب والملابس التى تساير آخر صيحات الموضة والسيارات باهظة الثمن إلى آخره، وبالتالى نصبح أمام ظاهرة تتجاوز الطبقات والفئات وتخلق مجتمعًا تتحدد فيه المكانة والقيمة بالحصول على منتجات غالية الثمن، وهذا ببساطة ما نشهده فى الشباب ذكورًا وإناثًا يبدأون حياتهم ولا يملكون فائضًا ماديًا كبيرًا، لكنهم يلهثون خلف ما تطرحه شركات الآيفون مثلًا بهدف اكتساب القيمة الاجتماعية الواهية.

هكذا تتحول المجتمعات وتحديدًا مجتمعات العالم الثالث، إلى مجتمعات تستهلك أكثر مما تنتج، وتستورد أكثر مما تتصدر، وهو ما يؤدى إلى انتقال فوائض المجتمعات هذه حتى لو كانت ناتجة عن سلع غير إنتاجية إلى مجتمعات أخرى أكثر توغلًا فى الرأسمالية.

لا حل أمام مثل هذه المجتمعات وهو ما يردده جُل الاقتصاديين، إلا فى السعى إلى استعادة قيمة العمل، والتحول من الاستهلاك إلى الإنتاج، وهو ما يقتضى التصدى الجاد للفساد الذى يجعل من قلة من المواطنين تمر بحراك اجتماعى مباغت من الدرجات الدنيا إلى الدرجات التى تتيح لها فرصة الاستعراض والنظر إلى المواطنين الآخرين نظرة استعلائية، بهذا تستطيع الدول النامية على الأقل أن تحد من الترف وأن تتحول إلى مجتمعات منتجة يعرف أفرادها قيمة المال وقيمة العلم والعمل.