جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

فى محبة القليوبى

الدكتور محمد كامل القليوبى «١٩٤٣- ٢٠١٧» ليس مُخرجًا سينمائيًا كبيرًا فقط، ولا أستاذًا مرموقًا فى الجامعة فقط، ولا مثقفًا يساريًا نقيًا يشعر بمسئولية تجاه مجتمعه، ولكنه إلى جوار ما سبق روح كبير، محرض على الإبداع وملهم لكل من عرفه.

فى أواخر أيامه أسس مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية، الذى أصبح فيما بعد مهرجان شرم الشيخ السينمائى، وهو المهرجان المهدد بالتأجيل «أو الإلغاء» هذا العام بسبب الصراعات الداخلية، وتعامل البعض معه على أنه أسس من أجل الوجاهة الاجتماعية، ولا يعرفون أن القليوبى فكّر فيه بهدف التواصل مع السينما الأوروبية التى لا يتابعها العرب بسبب سطوة الفيلم الأمريكى.

القليوبى المخرج قدّم، إلى جوار أفلامه الروائية، عددًا من الأفلام الوثائقية المهمة، مثل وقائع الزمن الضائع «محمد بيومى»، ونجيب الريحانى فى ستين ألف سلامة، وأسطورة روزا اليوسف، وتموت الظلال ويحيا الوهج، وخميس والبقرى، وغيرها من الأفلام التى تسعى الى تنشيط الذاكرة.

كان مشغولًا بشخصية المخرج المؤسس محمد بيومى، صنع عنه فيلمًا، وكتب كتابًا، وفى أيامه الأخيرة عمل على مذكرات الرجل الكبير، وترك نسخة مخطوطة وحيدة عندى، بعد رحيله تواصلت مع شقيقه اللواء على القليوبى وسلمتها له، وتم الاتفاق مع هيئة الكتاب لنشرها ضمن فعاليات مهرجان شرم الشيخ، المهدد بالإلغاء هذا العام.

القليوبى كتب فى المقدمة: «لقد اعتبرت أن علاقتى بموضوع محمد بيومى قد انتهت بما قمت بإنجازه خلال ثلاثة أعوام قمت خلالها بعمل وتمويل أول بحث اركيولوجى فى تاريخ السينما المصرية متصورًا أنه قد حان الوقت لأن يستأنف آخرون هذا العمل وغيرهم ممن يبدون اهتمامًا كبيرًا بمثل هذه الموضوعات، ثم نكتشف أنهم أشبه بمشجعى كرة القدم الذين تشكل الكرة محور حياتهم دون أن يكونوا قد مارسوا هذه اللعبة من قبل ولا ينوون ممارستها عن بعد، وهكذا وجدتنى ملزمًا بشىء أشبه بالواجب الذى لا مفر من القيام به بإحساس شخصى محض لا أريد أن أضع توصيفًا له أو أن أغلفه بكلمات عن الوطن والذاكرة.. إلى آخر ما يقال فى هذه المناسبات، ولكنه مجرد إحساس شخصى بالرضا عن النفس، وبأننى أقدر عملى بقدر استطاعتى وفى حدود إمكانياتى».

أكاد أسمع صوت كاتبه الشجى وأنا أقرأ، فهو أفضل استهلال يليق بمخرجنا الكبير وبمحمد بيومى أيضًا، لأنه يعبر بصدق عن عذوبة وتواضع ودأب وإحساس القليوبى بالمسئولية، تعرفت إليه أواخر الثمانينيات من القرن الماضى مع أساتذتى وأعمامى علاء الديب ومحمد البساطى وإبراهيم منصور، كان بيومى وتراثه وسيرته شغله الشاغل، تصادقنا سريعًا بسبب محبته للشعر، من القليلين الذين يعتبرون الحياة دون شعر لا يمكن احتمالها، يسأل عن الشعراء الجدد ويسعى إلى التعرف إليهم، يعود من زيارته إلى موسكو «كل عام أو عامين» محملًا بقصائد لشعراء روس شباب، يترجمها ويعرضها على أصدقائه، ويتحدث بجدية عن «حساسية» الكتابة الجديدة، وكيف تعبر عن عذابات البشرية كلها بعيدًا عن تداعيات انهيار الاتحاد السوفيتى، يعود أيضًا محملًا بـ«كتالوجات» آخر معارض الفن التشكيلى، وآخر ما أبدعه الموسيقيون.

هو مثقف موسوعى يبحث عن الجمال ومشتبك مع ما تنجزه الإنسانية، لا بهدف استثمار هذه المعرفة فى مقالات أو كتب، هو يتعامل مع المعرفة على أنها الزاد الذى لولاه يجف الإنسان، الفنان الذى بداخله لا يتعب من البحث، لم يتورط القليوبى فى معارك تافهة، كان يشعر بالخطر على مصر المعنى والمكانة، قاتل من أجل الحفاظ على تراث السينما أمام بداوة القراصنة المدججين بالمال، قاتل للحفاظ على ذاكرة الأمة، كنت محظوظًا لأنه فى حياتى، لأننى تعلمت على يديه أشياء كثيرة، كنت أقرأ ما يكتب أولًا بأول، ويطلعنى على مشاريعه المستقبلية، وسعدت كثيرًا «مثل عشاق الكتابة العظيمة» بمقالاته فى ملحق الجمعة بالأهرام حين كنت مشرفًا عليه عامى ٢٠١٤ و٢٠١٥، الفنان المثقف السينمائى الأكاديمى الذى يخاطب القارئ العام ويتحدث إليه كأنه صديقه، وينتظره هذا القارئ حتى لو كان الكلام عن ميشيل فوكو!، نفتقد القليوبى الذى قدّم للسينما: البحر بيضحك ليه، وثلاثة على الطريق، وخريف آدم.. ويعوض ربنا فى المهرجان الذى كان يحلم به.