جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مسك الشهداء

مني العساس
مني العساس

 

 

كان أهل البركة جميعهم غاطّين فى نومة أهل الكهف كعادتهم من بعد صلاة العشاء بينما يندفع صوت الكلاب التى تتعارك كالعادة، انتفضت عفاف من مضجعها تستعيذ، فهذه ليلتها الثالثة على التوالى التى يقض مضجعها هذا الكفن المرقط بالدم، هاجس كالجمر متقد فى ظلمات قلبها، ينهش طمأنينة روحها، يشى بعزيز راحل، نظرت بجانبها تتعقب وجلة أحافير الشقاء واللحية البدائية فى وجه حجاج والتى أهمل تشذيبها منذ اشتد عليه المرض، من ثم أبعدت هذا الخاطر الذى داهمها سريعًا وهمست فى خلاء خوفها تستجدى ربها أن يحفظ زوجها وأولادها، نهضت تجرجر قدمى الأرق، لتصلى ركعتين لعل الله يرفع عنها البلاء.

تباكى جرو تائه أرّق خشوعها، همت تفتح نافذتها لتتفقد الأمر، أوقفتها رائحة البخار الدافئ للضباب الخانق المتصاعد من البركة التى تسربت إلى خياشيمها قبل أن تزيح الستائر، فعادت إلى سريرها لتكمل نومها، فى عصر اليوم التالى أتى أصدقاء ابنها طارق لتوديعه قبل أن يعود لخدمته العسكرية فى سيناء: 

- عامل إيه فى الجيش يا طارق؟ 

- مسحول يا معلم. 

- عيب يا زميل الجيش للرجالة. 

- والله يا حاتم الخدمة فى سينا جهنم الحمرا. 

- يا بنى إنت هنا قريب، أمال لو رحت السودان، ده نص الدفعة اترحلوا على هناك.

- السودان يعملوا إيه؟، هيضربوا السد ولا إيه؟

- والله مش بعيد يا سالم، إنت ما تعرفش إن لينا قاعدة هناك.

- لا الحقيقة مش متابع. 

- فأجابه حاتم: يا راجل حد مش متابع اليومين دول، أنا مصدوم فيك والله. 

قاطعهما طارق مبتسمًا: 

يا بنى كما قال الفيلسوف: «الصدمة الحقيقية هى أن يشعر العقل أن العالم تجمد عند نقطة اللا شىء، وإن كل جهد مبذول هو بقعة سوداء فى ثقب أسود كبير لا تُرى، لا تحدث تغييرًا».

لم يكد ينهى طارق جملته حتى دخلت أمه تحمل الشاى والحلويات إلى المضيفة، فأخذ منها الصينية وخرجت ترن فى أذنها كلمات ابنها، جلست أمام التليفزيون وجمة، قادتها أفكارها إلى يوم ميلاده عندما دخلت إلى مكتب المدرسين تستريح قليلًا، فمنذ الصباح تشتكى من ألم يضرب أسفل ظهرها، تحاملت على نفسها وشرعت فى تحضير الدرس الجديد قبل موعد العودة- فهى تعلم جيدًا ما ينتظرها من عمل خارج هذا السور- عندها سمعت الأستاذ محمود، مدرس الفلسفة الجديد، يهمس للأستاذ عبدالمحسن الوكيل بكلام مشابه لما قاله طارق، دق جرس الانصراف، فوضعت كتبها فى الدرج وانطلقت مهرولة إلى بيتها غارقة فى عرقها، فهذا الشهر الجهنمى نزفت فيه الشمس نارها ثلاثين نهارًا كامرأة نفساء دون توقف، دون شفقة على من يعيش تحتها، فأخذت تقدحهم على مهل، تسويهم فى دهنهم الذى تنزه أجسادهم كلحم الضأن الذى ما زالت تخزنه الجدة هنية فى بوشها الفخارية تحت السرير، ما إن وصلت بيتها حتى دفعت الباب سريعًا، قصدت الحمام مباشرة لتفرغ مثانتها الممتلئة عن آخرها، فبولها يكاد ينبلج بين فخذيها، بالكاد استطاعت قبضه لتنزل سروالها دون أن يقطر ماؤها فيه، فهى فى شهرها الأخير، استدارت تبحث عن ماء تغتسل فوجدت الصنبور يصفر هواء.

- صرخت غاضبة: الله يخرب بيتك يا بتاع الماية، إيه القرف ده.

جففت نفسها بمنديل كان فى يديها ثم خرجت غاضبة، التليفزيون يصدح كالعادة وما من متابع، يعلو أزيز المروحة التى تلفظ أنفاسها الحارة ببلادة بعد أن استهلكت طاقتها السنوات فوق جثة زوجها الممدد على الحصير السمار بجوار الحائط يبارى شخيره صوت جاموستهم العطشى الآتى من مربطها خلف الدار. 

اقتربت منه تحاول إيقاظه بينما تخنقها رائحته التى تولت الطبيعة إعداد معادلاتها الكيميائية بحنكة، فخلطت مقادير متناسبة من رائحة المعسل المغموس برائحة الجوع التى تفوح من حنكه، بالإضافة إلى رائحة العرق الذى جف وترك لزوجة ملحة تسد مسام جلده، أخذت تنخز صدره بقسوة وهى ما زالت تبرطم، انتفض الزوج المنهك مفزوعًا بعينين محمرتين بالكاد يظهران من بين جفونه المنتفخة. 

- إيه يا عفاف فيه إيه يا شيخة؟

- قوم شوف الماية ما جتش من البارح والدنيا عفنت، روح أملالنا جركنين من «معين» الجامع، واستحمى الله يرضى عليك إلا ريحتك نتنت. 

- حرق أبو الماية على اللى عايزها يا عفاف، ارحمينى، أنا كنت وردية فى المصنع طول الليل ومداوم فى المصلحة من الصبح، ملحقتش أنام. 

- يا راجل حرام عليك دورة الماية ما فيهاش ولا نقطة، وأنا من الصبح واقفة على رجليه فى الفصل، يعنى إنت تنام وأنا أروح أقرفص على المعين بكرشى ده كله؟!.

- ولو عايزة تقلعى وتستحمى هناك استحمى يا عفاف وسيبينى أتخمد عندى شغل بالليل.

بلعت مرارة حلقها ونهضت تغمغم: «يا رب صبرنى».. بدلت ملابسها وخرجت تحمل جراكنها قاصدة المسجد متحاملة على ساقيها التى سدت دوالى الحمل شرايينها، وقفت فى طابور طويل تنتظر دورها، بعد قليل شعرت بخبط عنيف فى ظهرها فجلست تستريح على حجر بجوار الحائط الخلفى للمسجد بعيدًا عن الزحام، ألقت رأسها فوق كفيها من التعب، فجأة سمعت لهاثًا قريبًا يأتيها من خلف الحائط حيث الزقاق المهجور، مالت برأسها قليلًا فلمحت رجلًا بثوب أبيض يلوك بيديه فتاة سمينة، غمغمت:

- يا حزنى مين دول؟، وبينيلوا إيه ورا الجامع؟، ثم قذفت حجرًا تجاههم ففرا هاربين، ومن ثم انتبهت لثرثرة الجموع حولها:

- هو فيه إيه يا واد يا محمد الماية مالها ما عدناش بنشوفها؟ 

- والله يا أبا عبدالباسط منا عارف. 

- صوت غليظ أتاهم من بين الجمع: ومن أعمالكم سلط عليكم. 

- فيه إيه يا شيخ حامد إحنا كنا عملنا إيه فى دنيتنا عشان تتسلط علينا؟

- بص حواليك يا أخويا شوف نسوانكم لابسين إيه، لا خشا ولا حيا، هم سبب البلا. 

- مالهم نسوانا يا حامد ما طول عمرهم كده ولا إنت شوية الدروس اللى حضرتهم فى جامع الحج أحسن كلوا دماغك.

نظرت عفاف تجاه حامد فوجدت ظهره مغطى بالتراب، غمغمت: يخرب بيت أبوك لهو إنت، آه يا ابن الكلاب والله لسد نفسك يا ناقص.. ونادت عليه بصوتها المبحوح، فلف ظهره واستدار ناظرًا إلى الجانب الآخر ومن ثم أجابها مستغفرًا: أيوه يا ست عايزة إيه؟ 

- ألا إيه اللى عايص جلابيتك كده ومخلى ظهرك كله تراب؟، نفض له جلابيته يا محمد ألا الزقاق شكله كان ضيق عليه، جلابيته مسحت الحيط.

ارتبك حامد وذهب مهرولًا يستغفر ويحوقل. 

- ماله ده لسعته عقربة، يلّه غار فى داهية ناقصينه إحنا.

ما إن أنهى عبدالباسط جملته حتى أخذ محمد جركنى الأبلة عفاف يملؤها لها، حملت أحدها فوق رأسها ووضعت الآخر بجوار الحائط، وهى فى الطريق داهمها ألم الظهر بقوة هذه المرة، من ثم شعرت بماء الولادة يجرى فوق رجليها، فألقت بالجركنين وجلست، تحلق حولها بعض النسوة يساعدنها حتى نهضت متكئة على إحداهن وعادت إلى بيتها، استفاق حجاج من نومه على الضجة يتساءل: 

- إيه يا ولاد حصل إيه؟

- أتاه صوت إحداهن يحمل الإجابة: مراتك شكلها بتولد قوم جبلها داية ولا خدها لدكتور. 

سند حجاج زوجته وهو يبرطم: تولد ده إيه دى لسه فى أول التاسع، روحى يا بت يا سيدة اندهيلى خالتك أم محمد الداية تطل على أمك.

أتت أم محمد تهرول، دست يديها فى مهبل عفاف تسبر رحمها، من ثم نادت على حجاج: خد مراتك المستشفى، رحمها فاتح على آخره والعيل مقلوب، لازمن تولدها فى المستشفى يا بنى ألا يحصلها حاجة ولا كفى الله الشر الواد يموت فى بطنها.

- حاضر يا خالة.. وأخذ يبرطم: يا غلبك الأسود يا حجاج تروح فين وتيجى منين، هتجيب منين فلوس للمستشفى.

- سمعت هنية غمغمة حجاج فنادت عليه، دست يدها فى صدرها تخرج كيسها القماشى، تناولت منه لفة من النقود وضعتها فى يد حجاج وهمست فى أذنه:

- خد يا واد يا حجاج القرشينات دى ولّد مراتك ومتعولش أبدًا.

- ربى يخليك يا عمة وميحوجكيش لحد. 

أخذ حجاج زوجته إلى المستشفى الكبير بعد انتظار دام بضع ساعات أمام غرفة الولادة، خرجت عفاف بجانبها مولودها الجديد، عاد إلى البلدة رفقة زوجته والمولود، وهم فى طريق العودة اشترى اثنين كيلو من الموز لأولاده ونصف كيلو كبدة لعفاف، وما إن دخلا البيت حتى وجدا عيالهما متحلقين حول صينية مخروطة، أدخل زوجته إلى سريرها ووضع وليده بجوارها، ثم همّ بغرف صحن من المخروطة وغطاه بكمية وافرة من اللبن والسمن والسكر وناوله لعفاف، ومن ثم جلس بجوار عياله يأكل فلم يدخل جوفه شىء منذ الصباح، فى أثناء ذلك سأل أولاده: 

- مين اللى جاب لكوا المخروطة دى يا عيال؟

- ستى هنية يا أبا. 

- إن شا الله يخليها، ما بيفوتهاش واجب. 

لم تمر دقائق حتى أتت هنية تحمل صحنًا من الصاج المطلى تغطيه بطرف لفحتها، دسته فى حجر عفاف: خدى يا بت يا عفاف الفرخة البلدى حطيها مكان العيل هتقوتك، وارتاحى ما تعمليش حاجة، هطل عليكى الصبح، أول ما الفجر يشقشق هتلاقينى فوق راسك، وإوعى يا بت تباتى لوحدك فى الأوضة إلا الشر بره وبعيد الجن يلبس العيل، وما تخافيش على جاموستك أنى ساقيتها وبيّتها فى دارى.. ثم انصرفت عائدة إلى بيتها.

عادت عفاف من ذكرياتها على صوت ولدها طارق يطلب منها تحضير العشاء لضيوفه، نظرت إلى وجهه وهى تغمغم: الله يرحمك يا عمة هنية كنتى ولية طيبة، وهمست زائغة الذهن:

- بتقول حاجة يا حبيبى؟

- أيوه يا أمه كنت بقولك تجهزيلنا عشا سريع، اللى واخد عقلك يتهنا به. 

- هو فى حد غيركوا يا ولدى، هات إيدك أما أقوم أجهزلكو العشا، أخذت بيده لتنهض، سألها طارق مين عمتك هنية دى يا أمه، أنى مش فاكرها خالص.

- دى ستك هنية الله يرحمها، إنت ما توعاش عليها، هى اللى إدت فلوس خارجتها لأبوك عشان أولدك فى المستشفى، إلا أنت شكلك ما كنتش عايز تفارق بطنى، الله يرحمها ما مرتش السنة وقابلت وجه كريم، كانت مجوزة جدك مصطفى أبوالسيد، بس ما كانتش بتخلف، تركها جدك وراح إجوز ستك حجازية وخلف وملا الأرض عيال، وهى اتنست مع الزمن، وكل حين ومين أما تخطر على بال حد يترحم عليها. 

- الله يرحمها، ودى إيه اللى فكرك بيها دلوقتى يا أمه؟

- والله منا عارفة يا ابنى، أهى شردة جابت القديم كله، روح إنت لضيوفك وشويه ويكون العشا جاهز.

- حاضر يا أمه. 

وقبل أن يكشف الليل ستارته الأخيرة عن الشروق رحل الابن إلى خدمته، وانهمكت عفاف فى متابعة شئون أسرتها ورعاية زوجها المريض، فكبده الذى يكافح منذ سنوات لم يعد يستطيع الصمود أمام الفيروس النهم الذى يعذبه دون رحمة، حيث العلاج لم يعد يجدى نفعًا، قضت شهرًا شاقًا تسافر به كل أسبوع إلى الطبيب، هذا الصباح استيقظت يمزقها القلق يفرك قلبها مرتجفًا، وبالرغم من الإجهاد والأرق اللذين أكلاها وأبرزا عظام وجهها، أخذت تعمل كالطاحونة فى المنزل، تكنس وتمسح وتعدل أماكن الأساس دون داعٍ، كررت الأمر ثلاث مرات كمن لا يشعر أو يعى بما يفعل، حتى استوقفها رنين الهاتف، التقطته من على الطاولة سريعًا وفتحته لتجيب، بينما تسمرت عيناها على شاشة التليفزيون تتابع مشهد الجنود الذين قتلهم الإرهابيون اليوم فى سيناء، أتى الصوت من خلف الهاتف يبارى صوت مذيع النشرة، كلاهما يحمل إلى أذن روحها موسيقى جنائزية، تكذبها ابتسامة باهتة فوق الشفتين الذابلتين وعقل تجمد أمام جملتين يتيمتين حولاها فى لحظة إلى حطام أم «البقاء لله، شدى حيلك يا حاجة الشهيد طارق حجاج مات بطل».

سقط الهاتف من يديها بينما ما زال المذيع يقرأ الخبر، وما زالت الجثة هناك فى صفرة الصحراء ملتحفة رمالها، صرخة ملتاعة خرجت تودع طارق الذى تجسد فى زجاج عينيها اليابستين عريسًا متأنقًا تزفه الملائكة فى عرس ماجن إلى السماء، حيث مرآة الأفق مخضبة بالدم، معطرة بمسك الشهداء.