جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«لمبة بوصلة كهرباء».. وصية دلال عبدالعزيز في «عصافير النيل»

نعمة تودع رفيقة عمرها
نعمة تودع رفيقة عمرها جليلة

"الله يرحمك يا نعمة، يا أميرة يا بنت الناس الطيبين يا نعمة، يا عشرتك الحلوة يا نعمة، خلاص يا ختي، خلاص لا أنيس ولا جليس، عدمت الحبايب من بعدك يا نعمة، يا مقرب البعيد يا رب." بهذه الكلمات الطيبة الشجية شديدة الصدق والعفوية، النابعة من قلب برئ صادق الحس، نعت "جليلة" رفيقة عمرها، طفولتها وصباها، "نعمة" في مسلسل حديث الصباح والمساء عن رواية أديب نوبل نجيب محفوظ. نعمة التي أدت دورها الفنانة دلال عبد العزيز والتي فارقت عالمنا قبل قليل بعد رحلة شاقة ومؤلمة إثر فيروس كورونا.

_640x_f6a5fa158bba68075355e967e2e6b3d016fcaf5f3cd1c282b4534b1d387578ff
دلال عبدالعزيز 

ودلال عبد العزيز على كثر ما قدمته من أعمال سينمائية ومسرحية وتليفزيونية، إلا أن دور عمرها أو "ماستر سين" مشوارها الفني دورين لا ينساهما من تابعهما أو حتى رآهما ولو مرة واحدة. 

الدور الأول هو دور "نعمة" والذي أدته دلال عبد العزيز ببراعة وصدق حتى أننا بكينا، ونبكي كل مرة نشاهد مشهد رحيلها ورثاء صديقتها الصدوقة جليلة لها، من شدة ما أجادت دلال في أداء الدور ومعايشة الشخصية حتى أننا لم نلحظ ولو ثانية واحدة أننا أمام عمل درامي نتابعه عبر الشاشة فقط، إنما نحن أمام معايشة لحياة كاملة، حياة "نعمة" الطفلة الصغيرة التي حرمت من التعليم رغم رغبتها فيه، ونعمة الصبية الصغيرة التي هامت عشقا في "داود"، لكن يد القدر الغادرة تحرمها منه فيختطف ليجند في جيش محمد علي باشا. كما حرمت من حنان الأم مبكرا.

4947-1
دلال عبدالعزيز 

تنضج نعمة ويخرطها خراط البنات، فما كان من من يزيد المصري صديق والدها عطا المراكيبي، إلا أن يخطبها لولده "عزيز" شقيق داود الأكبر، وقد كان تستسلم نعمة فليس بيدها أمرها، وتواصل العيش أما ترعى وتربي وتنخرط في الحياة رغم جرح في أعماق قلبها أحكمت إخفائه بعيدا. وعندما يعود داود يطل الجرح من جديد وتتجدد آلامه، مع كل زيجة من زيجات داود.

وفي آخريات مسيرة هذه الحياة التي عاشتها نعمة يعود داود منهزما حسيرا، ليتحول العشق القديم إلى صداقة ومودة وألفة، يتحول للدفء والونس الإنساني، حتى أن نعمة تكون الحارس على وصية داود الأخيرة وتصمم منفردة وبنفسها رغم بلوغها من العمر عتيا أن تدفن "جوهر" زوجة داود الأخيرة بجواره وفي مدفنه كما أوصي، بل تتحدى إرادة زوجة داود "سنية الوراق" وابنه عبد العظيم باشا. وقبل كل هذا كان غريبا ومدهشا أن تتولى نعمة رعاية جوهر وتعطف عليها وتحميها من تقلبات الزمن بعد رحيل داود، ورغم أن جوهر زاحمتها في قلب داود باشا، إلا أنها لم تلتف إلى أيا من هذا، وأقدمت على رعاية جوهر كجزء من كل داود وحبها له، وفاء للعشرة والتاريخ الطويل المشترك بينها وبين داود. 

640x480
دلال عبدالعزيز 

 

ــ "نرجس" التي لم تطمح في أكثر من لمبة داخل قبرها

كما يعد دور "نرجس" الذي قدمته دلال عبد العزيز في فيلم "عصافير النيل"، من الأدوار التي توثق لمسيرة دلال الفنية. نرجس التي تخشى الظلام، وتفزع كالأطفال عندما تنقطع الكهرباء، حتى أن زوجها "البهي"، يوصيها دائما بأن تحتفظ بشمعة أو علبة كبريت في جيبها لتستخدمها لو انقطعت الكهرباء.

نرجس القادمة من أقاليم مصر لتعيش في إحدى عشوائيات القاهرة، التي تخافها وتخشى زحمتها وظلامها عندما تنقطع الكهرباء، ترعى أحلام زوجها البهي، وتساند أحلامه ومظالمه التي يرفعها لرئيس المصلحة التي يعمل بها. ليس هذا فقط إنما تشجع نرجس وتساند نزعة البهي في التمثيل، فتنصب له مسرح مرتجل في صالة البيت كلما صفا باله، ليصول ويجول متقمصا شبح هاملت.

5775276557643335
دلال عبدالعزيز 

نرجس لم تطمع أو تطمح في أكثر من "لمبة بوصلة كهربا" لتنير قبرها فهي تخشي الظلام، هكذا توصي زوجها البهي وتظل دوما تذكره وتوصيه وتشدد عليه أن ينفذ وصيتها: "يا ريتك يا سي البهي لما أموت توصللي لمبة بسلك في التربة.. إنشالله حتى أسبوع واحد بس" وعندما يجيبها البهي :"دي تضرب يا ولية"٬ ترد نرجس: والنبي ما هايجر لها حاجة.. إنت هايخس عليك حاجة، هتاخد وصلة من عبد الخالق الحانوتي لمبة خمسين شمعة، الحكاية كلها مش هاتكلفك غير جنيه ونص ويمكن حتي جنيه وربع ده أسبوع واحد لحد ما أخد على الضلمة. ويظل البهي يحاججها حتى يقتنع أخيرا ويقطع لها الوعد بتنفيذ وصيتها، ويعطيها الكبريت :"أاسكي متضيعهوش" فتتقلص ملامحها في ثانية واحدة تنقل لنا نرجس إحساسها بالنهاية ومجرد تناولها علبة الثقاب إيذانا لرحلة الظلام في القبر.      

1395227835_unnamed
دلال عبدالعزيز