جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تونس والديمقراطية

دليلًا على التوحّد الإنسانى والعربى الذى يربط الأقطار العربية تاريخيًا وحضاريًا إضافة للظروف المتشابهة ذاتيًا وموضوعيًا- وجدنا تأثر مصر بتونس بعد ثورة الياسمين فى ديسمبر ٢٠١٠، فكانت ٢٥ يناير، ولأن القدر أوجد تنظيم الإخوان المسلمين فى مصر وتونس، وهو تنظيم دولى تعمل فروعه حسب آليات التنظيم الذى يحوّل أعضاءه وكوادره إلى مسخ بشرى لا يملك غير السمع والطاعة- فكان ما كان فى مصر من استغلال الإخوان الديمقراطية الشكلية المتمثلة فى الصندوق فقط، واستولوا على الحكم.

ولكن الشعب المصرى فى لحظة فارقة تاريخيًا وغير مسبوقة خرج مُسقطًا الجماعة بعد عام واحد أدرك فيه حقيقتها وحقيقة ديمقراطية الصندوق، ثم حدث ذلك فى تونس بعد عقد من الزمان، بعد سيطرة الإخوان على مقاليد الحكم ليس بالصندوق فقط، ولكن بالأسلوب البراجماتى النفعى الذى تجيده الجماعة تحت مسمى «التقية»، وهى الظهور بالقول والفعل، بما يخالف المضمر والقابع فى النفس.

أدرك الشعب التونسى حقيقة الجماعة، فخرج فى ٢٥ يوليو الماضى، متمثلًا بـ٣٠ يونيو رافضًا نهضة الإخوان، بعد أن وصلت تونس إلى شفا السقوط الذى أصاب الاقتصاد والصحة والسياسة نتيجة لتضارب الاختصاص بين سلطات الرئيس والوزراء والبرلمان، وبالطبع كان وراء ذلك حزب النهضة الإخوانى.

استند قيس سعيد إلى المادة ٨٠ من الدستور التونسى التى تجيز للرئيس اتخاذ قرارات لحماية الوطن فى حالة تهديد سلامته، وكعادة الإخوان ليس فى تونس فقط ولكن فى كل مواقعهم، خرجوا يدافعون عن الدستور والديمقراطية والعقد الاجتماعى «هكذا قالت منظمة القرضاوى».

فما حكاية الديمقراطية والدستور؟

ديمقراطية الإخوان متمثلة فقط فى الصندوق الانتخابى، الذى يتحول لديهم إلى غزوة الصناديق، أى إلى حرب وليس ممارسة سياسية يمارس فيها المواطن حقه فى الاختيار الحر، وهى غزوة لأنها تعتمد على إثارة العاطفة الدينية لدى المسلم حتى يساند الجماعة التى تدافع عن الدين وعن الشريعة فى مواجهة أعداء الدين من السياسيين المختلفين، بل من المسلمين الذين يعلمون حقيقة متاجرة الجماعة بالدين.

فالديمقراطية لا تعنى الصندوق فقط، ولكنها تعنى حرية إبداء الرأى دون وصاية دينية أو سياسية أو اقتصادية أو قبلية... إلخ، فما بالك من الوصاية الدينية التى تمارسها الجماعة منذ أن وجدت؟

وإذا كان الصندوق أداة معبرة عن رأى الجماهير؟ أليس خروج الجماهير الحاشدة فى الشوارع رافضة نظام الإخوان فى مصر وفى تونس وفى السودان، وغيرها هو الديمقراطية المباشرة التى هى أساس المسمى الديمقراطى تاريخيًا ومنذ ظهورها فى اليونان؟

تلك الديمقراطية المباشرة التى تحررت من كل أنواع الوصايات، وبالأخص الوصاية الدينية التى تستغل أهم ما يؤمن به الإنسان فى الحياة وما بعدها لتفرض إرادتها التى تحقق مصالحها الذاتية والسياسية باسم الدين والدين منها براء، أما التمسك بالدستور فلأن النهضة تونس هى التى استغلت كل التناقضات السياسية بين الفصائل السياسية فى تونس، وهى التى سيطرت على إعداد الدستور مثلما فعلت فى مصر فى دستور ٢٠١٣.

تلك الدساتير التى تفصل على مقاس تحقيق المصلحة الإخوانية، استغلالًا للديمقراطية والدستور اللذين هما خارج قناعة تلك الجماعة سياسيًا ووجوديًا، ومع ذلك فالرئيس التونسى لم يُسقط الدستور، بل اعتمد على إحدى مواده فى اتخاذ القرارات التى جمّد فيها البرلمان وأسقط الحصانات وحل الوزارة تمهيدًا لتقديم الفاسدين من حزب النهضة وغيره إلى المحاكمات العادلة، خاصة بعد اتهامه القضاء التونسى بالانحياز إلى النهضة، والتستر على قتلة بلعيد ولبراهيمى.

ولكن هل سيسلم النهضة بالأمر؟ بالطبع لا، ولقد ظهر هذا فى الأيام القليلة الماضية فلقد هدد الغنوشى بالحرب الأهلية وهدد بالتدخلات الأجنبية لحد طلبهم عدم إمداد تونس بالمصالح الخاصة بكورونا، فى الوقت الذى يحصد فيه الشعب التونسى المرض.

حاول الاعتصام أمام البرلمان وتمثل برابعة ففشل، هنا كانت البراجماتية النفعية للتحول إلى النقيض، حيث قال: مستعد للحوار والتنازل، بل اعترف بخطأ النهضة، وكل هذا حتى يظل فى الكادر السياسى مستقبلًا ليعيد كذبة الديمقراطية، حيث إن طبيعة الغنوشى هى مبدأ «تمسكن حتى تتمكن».

هنا وفى ظل التفاف الشعب بكل قواه وراء قيس سعيد، تصبح القضية هى قضية الشعب التونسى الذى يجب أن يفرز الغث من السمين، ويعيد تقييم ما حدث لأنظمة الحكم الدينى فى مصر والسودان.

هنا نقول إن ما حدث ويحدث للأنظمة الدينية هو الحقيقة الكاشفة لتلك الأنظمة التى لا علاقة لها بالسياسة ولا بالحكم ولا بالدولة ولا بالديمقراطية أو الدستور، ولكنها هى أنظمة تستغل الدين وتتاجر بعواطف المتدينين.

حفظ الله تونس ومصر وكل الشعوب المتدينة التى تكشف المتاجرين بالأديان.