جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«لا يمكن للكاتب أن يكون محايدا».. لماذا لم يبتعد يوسف إدريس عن ضوء السياسة الأحمر؟

يوسف إدريس بجوار
يوسف إدريس بجوار تمثاله

لم يكن يوسف إدريس يؤمن بمقولة «ليس من عمل الكاتب أن يقدم حلولًا»، ففي رأيه أن صميم عمل الكاتب هو تقديم الحلول، ليست حلولًا يطرحها هو، إنما يصدر في رؤياه طرق مختلفة للحل، لا أن يعقِّد المشكلة.

كذلك يرى أن دور الفنان هو أن يكون عكس السائد، بمعنى أنه «إذا كان الشعور السائد في المجتمع مكتئبًا فالفنان يمرح»، والعكس «إذا كان الشعور السائد في المجتمع مرحًا فهو يكتئب»، وذلك في ظن «إدريس» لأن الفنان ليس المعادل الموضوعي للحياة، إنما هو المعادل المعاكس لكي يوازنها، وهذا هو الفن.

ربما من هاتين الرؤيتين عن الكاتب والفنان يمكننا أن نعرف لماذا لم يبتعد إدريس عن ضوء السياسة التي تكثر فيها الخطوط الحمراء على عكس خطوط القصة الخضراء.

وحينما سئل إدريس في حوار لمجلة «الهلال» سبتمبر 1989: هل في رأيك أنه يجب على الكاتب أن يكون له رأي سياسي؟ فأجاب: «رغمًا عنه، لا بد أن يكون له رأي سياسي، حتى كمواطن عادي، أليس الكاتب بشرًا؟ ألا يقرأ الصحف ويسمع الإذاعة ويرى نشرات الأخبار ويسافر؟ يجب أن يكون له رأي»، فسُئل: أي أن هناك استحالة في أن يكون الكاتب محايدًا؟ فأجاب: «من الممكن أن يكون له رأي رجعي، لكني لا أعرف كاتبًا أصيلًا رجعيا في رأيه». فأوضحت له الكاتبة الصحفية هبة عادل عيد: أعني أن يكون بلا رأي على الإطلاق.. محايدًا.. بلا موقف.. بلا هوية؟ فعلق إدريس: «كيف يمكن للكاتب أن يكون محايدًا؟ الحياة نفسها ليست محايدة، فكيف يمكن للكاتب أن يكون محايدًا حيال الأخطار؟ كيف يمكن للكاتب أن يكون محايدًا تجاه القنابل النووية وحرب النجوم -على سبيل المثال- كيف؟».

الحركة الوطنية في حياته

زاول يوسف إدريس النشاط السياسي مبكرًا جدًّا، منذ كان لا يزال طالبًا في كلية الطب، ويسرد يوسف إدريس تفاصيل بداياته في العمل السياسي في حواره لمجلة «الهلال» فبراير 1981، فيقول: «في مطلع شبابي انغمست تمامًا في الحركة الوطنية وقد صاحب هذا دخولي كلية الطب، وانتخابي عضوًا في اتحاد كلية الطب وسكرتيرًا للاتحاد، ثم مندوبًا لكلية الطب في اتحاد الجامعة، وأخيرًا شكَّلنا لجنة الطلبة والعمال المشهورة باسم (اللجنة العليا للكفاح المسلح)، التي كانت تدرِّب وتشتري السلاح والمستلزمات الطبية والذخيرة لكتائب اللجنة التي كانت تحارب الإنجليز في فايد والإسماعيلية والتل الكبير، وفي هذه الفترة تمت بإصدار عدة مجلات كان أخطرها مجلة (الجميع) التي قُدمت من أجلها لمجلس تأديب، وفُصلت عامين من الجامعة، ولكن الصحف تبنَّت هذه القضية بوصفي (زميلًا) وشنت حملة صحافية ناجحة بقيادة الإنسان الأستاذ أبو الخير نجيب ورُفع عني قرار الفصل».

لكن إدريس يذكر للكاتب الصحفي رشاد كامل مجلةً أخرى تسمى «طالب طب»، ويذكر أن مدة الفصل كانت عامًا واحدًا في سلسلة ذكرياته التي نشرتها مجلة «صباح الخير»، فيقول: «اشتركت مع عدد من الزملاء الأصدقاء في إصدار مجلة اسمها (طالب طب)، ثم أصدرنا مجلة أخرى اسمها (الجميع) تم مصادرة العدد الأول منها، ومحاكمتها بسبب مقال كتبته بها، وتم فصلي لمدة سنة، وكان ذلك عام 1949».

ويسرد إدريس في حواره الذي نُشر بمجلة «صباح الخير» بتاريخ 8 أغسطس 1985، مع الكاتب الصحفي رشاد كامل، تفاصيل المقال الذي فُصل بسببه من الجامعة سواء كان الفصل لمدة عامين -حسب رواية إدريس الأولى- أو لعام واحد فقط -حسب رواية إدريس أيضًا!

يقول إدريس في حواره مع رشاد كامل: «كان مقالي يهاجم الأساتذة الذين يعطون دروسًا خصوصية للطلبة في كلية الطب، ورغم أن عدد هؤلاء المدرسين كان محدودًا للغاية، وكان لا يتعدى أجر الواحد منهم عن الحصة الواحدة جنيهًا فقط، فإنني اعتبرتها قضية عمري، وظهر المقال في المجلة واعتبره الأساتذة أنه تشنيع، وفي نفس العدد كان هناك تحقيق صحفي مصوَّر عن العيادات الخارجية في مستشفى قصر العيني وكيف أن الأطباء لا يعملون بهذه العيادات ومتفرغون لعياداتهم الخاصة، وهاج الأطباء واعتبروا ذلك التحقيق طعنًا فيهم»، إلا أن يوسف إدريس ظل يؤكد أن التحقيق معه وفصله كان لأسباب سياسية خفية على رأسها الاتجاه التقدمي للمجلة عمومًا!

ويرصد جلال السيد في دراسته عن النضال في كتابات يوسف إدريس، واقعة اقتحام إدريس لنادي القصة في 29 أكتوبر عام 1956، حيث كانت هناك ندوة عن علاقة الأدب بالمجتمع، وصرخ فيهم يوسف إدريس قائلًا: «ماذا تناقشون هنا، والبلد بتنضرب بالقنابل!» ثم تركهم إدريس غاضبًا.