جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

كل هذا الفساد

منذ سنوات دار نقاش بينى وبين صديق مثقف.. كان يرى أن النخبة المصرية أحد أسباب تراجع المجتمع المصرى، وكنت أرى العكس.. بعد هذه السنوات من العمل، والقراءة، والتأمل فى الأحوال لا أرى أن النخبة أحد أسباب تراجع مصر فقط.. ولكننى أرى أن بعض أفراد هذه النخبة يجب أن يحاكموا على الجرائم التى ارتكبوها فى حق هذا الشعب وفى حق القيم النبيلة التى ينتحلونها.. النخبة لها تعريفات كثيرة ولكنها بشكل عام تعبر عن المجموعة الأكثر موهبة فى كل مجال.. هم قادة الرأى العام والمؤثرون فيه الذين يشكلون مزاج المجتمع، هناك نخبة دينية، ونخبة إعلامية، ونخبة اقتصادية، ونخبة سياسية.. ومع الوقت تتزاوج هذه النخب وتتداخل مصالحها وتكون مزيجًا بينها يسمى «النخبة».. أستطيع أن أقول إن النخبة المصرية كانت أحد أسباب تدهور المجتمع المصرى فى زمن الرئيس مبارك.. وأن الأمر بدأ بفساد صغير ظلت دوائره تتسع ومنسوبه يزيد حتى بلغ الحلقوم.. ووصل المجتمع والدولة إلى حافة الانهيار.. وكانت المفارقة أن بعض عناصر هذه النخبة الفاسدة سرعان ما امتطوا ظهر الجماهير الغاضبة التى خرجت احتجاجًا على الفساد، رغم أن هؤلاء أنفسهم كانوا شركاء فى هذا الفساد ومتسترين عليه، ومستفيدين منه.. والحقيقة أن الفساد والسماح به كانا إحدى أدوات إدارة بعض المسئولين للأمور فى زمن الرئيس مبارك.. فالذى يدير ملف المجتمع المدنى مثلًا ليس لديه أى مانع من أن يسرق بعض أموال التمويل الأجنبى ويحولها لثروة حرام يصعد بها من الحضيض إلى القمة ما دام هذا اللص سيلتزم بالقواعد التى توضع له، بل إنه فى حالة فساده هذه سيصبح أكثر قابلية للسيطرة، والذى يدير ملف الدعاة ليس لديه أى مانع من أن يتورط هذا الداعية أو ذاك فى فضائح تزكم الأنوف، ولا أن يخدع الناس، ولا أن يراكم الثروات الحرام من هنا ومن هناك.. ما دام سيلتزم بقواعد اللعبة، الأمر نفسه فى ملف الإعلام.. حيث كانت الفترة الذهبية لفساد الإعلاميين من ٢٠٠٠ تقريبًا وحتى ثورة يونيو ٢٠١٣ الفترة الذهبية لفساد وإفساد الإعلام، واستغل البعض مواقعهم فى ابتزاز الفاسدين.. فأصبح الوضع أن فاسدين يبتزون فاسدين.. وشاعت قصص يندى لها الجبين.. وكان مبعث الدهشة أن أحوال الجميع تزدهر.. وأن بعض المرتشين والمبتزين كانوا يخرجون للناس فى برامج المساء وهم يرتدون مسوح الثوار والمصلحين والمتحدثين باسم الحق العام.. وشكل هؤلاء شلة مصالح كبيرة تهدف إلى السيطرة، وتبادل الخدمات.. فالسياسى المتمول صديق للصحفى المرتشى وكلاهما صديق للسينمائى المدعى، والمحامى السمسار، والداعية تاجر الدين.. وهكذا.. ما دامت المصالح تسير، والخدمات يتم تبادلها وفق دستور ثابت مكون من كلمتين هما «شيلنى وأشيلك» وهما كلمتان تختصران حال النخبة المصرية خلال العشرين عامًا الأخيرة على الأقل، مع وجود جذور واضحة لهذا الفساد منذ ما بعد حرب أكتوبر وما تلا ذلك من سنوات.. وكانت إحدى المعضلات التى تواجهنى وأنا شاب صغير هى ذلك التناقض بين اللافتات الفكرية التى يحملها البعض وبين سلوكه الشخصى ومسلكه فى الحياة بشكل عام.. كنت أقف كثيرًا أمام ذلك السياسى الذى يرفع شعارات الدفاع عن الفلاحين والفقراء وهو يعيش حياة الأثرياء أو يحصل على تمويل من دول وكيانات سياسية يعمل وكيلًا لها.. أو ذلك المدعى الذى يعيش فى قصور أوروبا ويشغل وقت فراغه بالكتابة عن الكادحين، بينما هو عاهر حقيقى، يدل على ذلك كل تفصيلة فى حياته الخاصة، أو ذلك الداعية الذى يدعى أنه صاحب رسالة، فى حين هو تاجر ينتظر اتصالًا ممن يشترى منه بضاعته ولا يهمه هل الزبون جهاز مخابرات عربى أم أوروبى أم جماعة الإخوان التى خرج منها.. وينتظر الفرصة كى يعود إليها.. أو ذلك المحامى الذى ينحرف برسالة القانون ورجاله العظماء فى تاريخ مصر ليتحول لوكيل لبعض الأثرياء يؤدى لهم الأعمال القذرة ويبرم صفقات الفساد مع الإعلاميين وغيرهم.. لقد انشغلت هذه النخبة الملوثة بنفسها ومصالحها وبيع ضمائرها لأعداء هذا الشعب من تجار الدين والفاسدين والراغبين فى إضعاف مصر وإسقاطها.. هذه النخبة كان عليها دور مقدس فى محاربة التطرف والجهل والأمية والتفكير الخرافى بين أبناء الشعب، لكنها انشغلت بمراكمة الثروات الحرام، وتربيط المصالح الشخصية وإهدار كل قيمة نبيلة.. وكانت النتيجة هى حالة الانهيار التى وصلت لها مصر والتى لم ينقذنا منها سوى ثورة ٣٠ يونيو.. إن الثورة لا تكون ثورة بغير أن تحارب الفساد وتطبق معايير النزاهة وتفرز نخبتها الحقيقية التى تؤمن بمبادئها وتخوض معاركها متجردة عن المصالح الشخصية ومتطهرة من العفن الذى أصاب غيرها ومضحية من أجل وطنها.. ودون ذلك فلا أمل، فلا أحد يدخل الغد وهو يرتدى ثياب الأمس.. ولا يوجد مجتمع يتوضأ بالماء الآسن ويرجو أن تُقبل صلاته.. أو هكذا أظن.. والله ولى التوفيق.