جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تونس تتطهّر.. أو تحاول!

فى خطوة تهدف إلى طمأنة المجتمع الدولى بشأن الانتقال الديمقراطى فى تونس، أجرى عثمان الجرندى، وزير الخارجية التونسى، سلسلة اتصالات تليفونية مع وزراء خارجية مصر، السعودية، الكويت، فرنسا، إيطاليا و... و... ومع مسئولين بمنظمات إقليمية ودولية، أطلعهم خلالها على تطورات الأوضاع فى بلاده. 

ما جرى توضيحه، فى تلك الاتصالات، لخصه بيان أصدرته الخارجية التونسية، فى أن قرارات الرئيس التونسى قيس سعيد تهدف إلى الحفاظ على المسار الديمقراطى وحماية المؤسسات الدستورية وتحقيق السلم الاجتماعى، و«التنظيم المؤقت للسلطة إلى حين زوال حالة الخطر الداهم على الدولة، مع ضمان كل الحقوق والحريات وعدم المساس بها». وهذا تقريبًا، هو ما أوضحه الرئيس التونسى لوزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، الذى لخص موقف بلاده الرمادى، بأن حضّه على «مواصلة الحوار المفتوح مع جميع القوى السياسية»!

المقصود بـ«جميع القوى السياسية»، طبعًا، هو عدم استبعاد «حركة النهضة»، التى بدا أنها اتخذت خطوة إلى الوراء بدعوتها إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة، وإلى «إرساء حوار وطنى». لكن سبق تلك الدعوة قيام القضاء التونسى بفتح تحقيقات عاجلة فى ملفات فساد مالى وسياسى والإضرار بأمن البلاد. وأوضح محسن الدالى، المتحدث الرسمى باسم القطب القضائى الاقتصادى والمالى، أمس، أن التحقيقات ستشمل ثلاثة أحزاب هى حركة النهضة، وقلب تونس، وعيش تونسى. مشيرًا إلى أن قضاة التحقيق سيتخذون «إجراءات تحفظية» ضد المشتبه بتلقيهم تمويلات أجنبية أو أموالًا مجهولة المصدر.

هذه التحقيقات، التى تأخرت كثيرًا، كانت متوقعة. ولعلك تتذكر أن التونسيين سبق أن طالبوا، فى عريضة وقعها آلاف، بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق والتدقيق والكشف عن مصادر ثروة راشد الغنوشى التى تم تقديرها بأكثر من ٨ مليارات دولار. كما طالب «حزب التيار الشعبى»، منتصف مارس الماضى، «مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية وعموم الشعب» بالتعامل بيقظة وحذر مع «حالة الهيجان التى تعيشها حركة النهضة وأذرعها البرلمانية والإعلامية والأمنية، نتيجة قرب انكشاف ملفاتهم الإجرامية وتورطهم فى منظومة الفساد والإرهاب لسنوات». 

التقرير الصادر، أواخر العام الماضى، عن محكمة المحاسبات، أعلى هيئة قضائية رقابية فى تونس، أوضح أن «حركة النهضة» تصدرت قائمة الأحزاب، التى ارتكبت مخالفات وتجاوزات، خلال انتخابات ٢٠١٩، البرلمانية والرئاسية، كما تواجه الحركة الإخوانية اتهامات عديدة أبرزها تلقى تمويلات أجنبية، ودعم بعض الكيانات الإرهابية، واستغلال مؤسسة القضاء، أو إفسادها، للتلاعب بملفات التقاضى الخاصة بتورطها فى تصفية معارضين سياسيين.

التدابير الاستثنائية، بدأت بإقالة رئيس الحكومة وتجميد أعمال البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه. وأمس الأول، قرر الرئيس التونسى إقالة مستشارين بديوان رئيس الحكومة ومدير الديوان و... و... وعقد اجتماعات ماراثونية، مع ممثلين للقضاة والمحامين والصحفيين والعمال والفلاحين ورجال الأعمال، طمأنهم خلالها على تمسكه بـ«المسار الديمقراطى»، وأعلن عن اعتزامه إحالة عدد من البرلمانيين إلى القضاء، بسبب ملفات فساد مفتوحة منذ سنوات، إضافة إلى قياديين فى بعض الأحزاب، وصفهم بأنهم «سماسرة وخونة وفاسدون» واتهمهم بـ«سرقة ثورة الشباب وتغيير أولوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية».

القوى السياسية التونسية، على اختلاف مواقفها من قرارات سعيد، اتفقت على المطالبة بوضع «خريطة طريق»، لكنها اختلفت على الهدف النهائى من تلك الخريطة وسقف إجراءاتها ومداها الزمنى. وطالب بعض السياسيين بعدم التقيد بشهر واحد، لأن «خطة الإنقاذ» والمعركة مع الإخوان وبارونات الفساد فى قطاعات القضاء والإدارة والمال والأعمال تتطلب مدة طويلة. والإشارة هنا مهمة إلى أنه لا يوجد مانع دستورى لتمديد التدابير الاستثنائية.

بعد اجتماعه مع الرئيس فى قصر قرطاج، أكد إبراهيم بودربالة، نقيب المحامين التونسيين، أن الحوار السياسى الوطنى سيشمل كل الأطراف السياسية، باستثناء تلك التى «تحوم حولها شبهات فساد». وقال زهير المغزاوى، زعيم حزب «الشعب القومى الوحدوى» إن الرئيس أكد له بوضوح أن خريطة الطريق الوحيدة التى تهمه هى «وقف الفساد وإحالة بعض المشتبه فيهم بالتهريب والفساد إلى المحاكم». ونقل المغزاوى عن قيس سعيد أنه «سيدافع عن المسار الديمقراطى»، وأنه «ليس فى حاجة للدفاع عن الديمقراطية الفاسدة التى سادت البلاد فى ظل حكومة «المشيشى» وحزامه السياسى بقيادة حزبى «النهضة» و«قلب تونس». 

.. وتبقى الإشارة إلى أن «إخوان تونس» لهم جهاز سرى مسلح من المتوقع أن ينشط خلال الفترة المقبلة، مدعومًا من الدول الداعمة للإرهاب والميليشيات الليبية القريبة من حدود البلاد الشرقية. ما يعنى أن ما فعله قيس سعيد، وما قد يفعله، سيقود إلى نتائج كارثية، ما لم يتم سحق عناصر هذا الجهاز، واجتثاث الجماعة الضالة من جذورها، وإغلاق حنفية المال السياسى، وتجفيف منابع الإرهاب والتطرف، وتطويق الفاسدين، الذين ستكون ردود أفعالهم شرسة جدًا.