جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

منزلة الشاعر الجديد

سألنى أحد الزملاء الصحفيين: لماذا خبأ نجم الشعر العربى وانتصرت عليه الرواية لدى الجمهور رغم أنه كان فنًا أصيلًا وقديمًا ومرتبطًا بالعرب بشكل خاص؟ وكيف ترى مستقبله؟ هل انفصل فعلًا عن الشارع والمجتمع؟ وهل ذلك الانفصال بسبب تطوير اللغة أم تكرارها؟ وهل أسهمت محاولات التجريب المتعددة فى انصراف الناس عنه؟

لم أعرف كيف أجيب، ولكننى اجتهدت وقلت له: ليس صحيحًا أن الشعر العربى هزم فى معركة أمام الرواية، الشاعر «القديم» فقط هو الذى فقد منزلته فى المجتمع، لأنه يوجد الآن شعر عظيم وفى معظم البلدان العربية، أصوات رائقة ومتنوعة ومختلفة وغزيرة، ولا تستطيع أن تقول إن العراق ومصر ولبنان وسوريا تتصدر المشهد كما كان يحدث منذ بدايات القرن العشرين، كنت مخطئًا بشأن الشعر الجديد فى شمال إفريقيا مثلًا، توجد حيوية مفرحة، فى المغرب وتونس وليبيا والجزائر، وأعتقد أننى بحكم تجربتى مع الشعر والصحافة الثقافية تعرفت على مواطن الجمال فى شعر هذه البلدان.

كنت فى تونس قبل ثلاثة أشهر، وتعرفت أكثر على جيل جديد يكتب شعرًا جديدًا تخلص من الشحوم البلاغية ووصل إلى جوهر الشعر، شعر مهد لعلمنة اللغة فى مواجهة اللغة الخشبية التى صبغت خطاب الإخوان المسلمين على المنابر والمنصات الإعلامية.

باختصار، الشعر فى حالة جيدة ولكن غياب النقد وتقليص المساحات المعنية به فى الصحف والفضائيات، وربما بسبب غياب النقد، اتسعت مساحات التجريب والمغامرة.

وليس صحيحًا أن الشعر منفصل عن الشارع، لأن معظم الشعراء يعبرون عن همومهم وطموحات وإحباطات ذويهم بإخلاص، الشعراء التقليديون موجودون أيضًا، ولم يقنعنا أحدهم بموهبته بعد رحيل الجواهرى والبردونى، ومع هذا تذهب كل جوائز الشعر السخية لهم، وشعراء الحداثة الذين يتم سبهم وتكفيرهم ويكرههم القوميون ونجوم التسطيح من الإعلاميين سينصفهم التاريخ، والقارئ الذى لا يشكل الشعر شيئًا مهما فى حياته، هو الذى ذهب للرواية، والرواية فن عظيم لا شك، ولكنها دون المستوى فى الثقافة العربية باستثناءات قليلة مثل نجيب محفوظ وفتحى غانم وفؤاد التكرلى.

توجد الآن كتابة جميلة وجوائز كثيرة ولكن لا توجد رواية عظيمة، حيث ازدهر هذا الفن منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضى لأسباب لا علاقة لها بتطور الكتابة، الرأسمالية فرضت التماثل الإجبارى على البشرية، أنت والذين يعيشون فى اليابان ونيجيريا والبرتغال ومالطا وسمالوط تلبسون نفس الأزياء وتركبون نفس السيارات، وتعيشون فى شقق متشابهة، وكل منا أصبح ترسًا فى ماكينة ضخمة.

الرواية جعلت هذا المستهلك «المواطن سابقًا» يسافر إلى الصين وإفريقيا والبرازيل وهو فى مكانه، الرواية أوهمته بأنه يعيش فى عالم رحب ملىء بالحكايات التى لن تنتهى لكى يذهب إلى العمل فى الصباح وهو يشعر بأنه ينتمى لهذا الكوكب ويعرف حكاياته.

نحن فى لحظة صعبة من التاريخ، توجد هزائم شخصية وأخرى أكبر، ووقع هذه الهزائم يكون أقسى على الشعراء الذين يحلمون للجميع فى كل العالم، الشاعر الجديد يحاول أن يتواصل مع أصدقائه المقربين والافتراضيين بقصيدته، يتواصل مع أشخاص يعانون من الوحدة والظلم ومن سطوة الفكر الغيبى، هو يكتب ليقنع نفسه أنه هنا والآن وهو بكامل قواه العقلية.

السلطة الثقافية المهيمنة فى الوطن العربى تحب الشعر الذى يطربها، والشاعر الحقيقى يعتبر نفسه ويعتبره التاريخ أعلى منزلة من السياسى والحزبى، لأنه سيبقى شاهدًا على زمن أهله ووطنه وليس زمنه فقط، والشأن العام موجود فى معظم ما يكتب، وليس مطلوبًا من الشعر أن ينزل الانتخابات، أو يصبح شعبويًا يدغدغ مشاعر المقهورين، أو يصبح أنيقًا محافظًا يطرب مشايخ الخليج أو موظفى وزارات الثقافة الذين يوزعون جوائزهم على الأبرياء الذين يدافعون عن الماضى ويقاومون التحديث.