جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عن الملء الثاني للسد الإثيوبي

سادت حالة من "القلق" و "الضبابية" لدى الكثير من القطاعات المجتمعية المصرية، وذلك مع إعلان إثيوبيا عن "إتمام عملية الملئ الثاني لسد النهضة"، والحقيقة أن حالة القلق "مشروعة" في ضوء كون قضية المياه من القضايا الوجودية والمصيرية بالنسبة للشعب المصري، وحالة "الضبابية" مُبررة في ضوء عدم اكتمال الصورة لدى هذه الفئات، خصوصاً فيما يتعلق بماهية هذا الملئ، وحقيقته، وأهداف الإعلان الإثيوبي عنه، وهنا بعض الملاحظات على عملية الملئ الثاني منذ الإعلان عن البدء فيها وحتى اللحظة:
- قدمت إثيوبيا موعد الملئ الثاني لسد النهضة، فبدأت هذه العملية يوم 6 يوليو بدلاً من 22 يوليو، وهو أمر يرتبط ببعدين رئيسيين، الأول هو التغطية على الأزمات الداخلية التي تمر بها إثيوبيا، خصوصاً ما يتعلق بالحرب الدائرة في إقليم "تيجراي"، إذ تزامن الإعلان عن البدء في عملية الملئ الثاني مع تعرض القوات الفدرالية الإثيوبية لهزيمة ساحقة في تيجراي، وإعلان جبهة "تيجراي" أسر آلاف الجنود من قوات آبي أحمد، بل وإعلان جيتاتشو رضا متحدث الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، بأن الحرب ستمتد إلى أراضي الأمهرة وإريتريا، وهما القوتان التي تورطت في حرب آبي أحمد بالإقليم، وعموماً فقد اعتاد الرئيس الإثيوبي على توظيف بعض الأزمات الخارجية مثل قضية سد النهضة، والتوترات الحدودية مع السودان، من أجل الهروب من الفشل الداخلي في العديد من الملفات، وهو ما جعل ملف سد النهضة يتحول من قضية تنموية بامتياز، إلى أداة مناورة سياسية في يد آبي أحمد وحكومته من أجل مواجهة الصراعات الداخلية المحتدمة.
أما البعد الثاني فهو تزايد الضغوط الدولية في تلك الفترة على آبي أحمد، حيث اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، أن "الانتهاكات التي تحدث في إقليم تيجراي الإثيوبي بسبب الصراع حكومة آبي أحمد، وجبهة تحرير تيجراي، قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب"، وهو ما جعل الطرفين يطالبان آبي أحمد "بسحب قواته من الإقليم على الفور، وتيسير عملية دخول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم".
- تزامن الإعلان عن البدء في عملية الملئ الثاني لسد النهضة، مع إعلان المجلس الوطني للانتخابات في إثيوبيا، عن فوز "حزب الازدهار" الذي يتزعمه "آبي أحمد" بأغلبية مطلقة، في الانتخابات التشريعية التي انعقدت في إثيوبيا يوم 21 يونيو، وهي الانتخابات التي لاقت انتقادات واسعة على المستوى المحلي والدولي، حيث اتهمت العديد من الأحزاب السياسية الإثيوبية حزب الازدهار بالتدخل في الانتخابات، وتوظيف القوة من أجل التأثير على قرار الناخبين، فيما اعتبرت واشنطن والعديد من الجهات الدولية أن هذه الانتخابات معيبة، بسبب الأوضاع الأمنية المأزومة التي تأتي في ظلها، فضلاً عن التسلط الذي يمارسه آبي أحمد وحزبه بحق المعارضة الإثيوبية.
وهنا استدعى رئيس الوزراء الإثيوبي ملف السد عند التعليق على فوزه بالانتخابات، حيث أشار في خطابه تعليقاً على الفوز بالانتخابات إلى أن "السد ليس مجرد مصدر للكهرباء، بل هو مصدر قوة ووحدة للإثيوبيين"، وطبعاً مثل هذا الاستدعاء لقضية السد، محاولة لخلق اصطفاف وطني حول آبي أحمد، في مواجهة الانتقادات الداخلية والخارجية الكبيرة للانتخابات الإثيوبية.
- بخصوص اللجوء المصري – السوداني إلى مجلس الأمن الدولي، وما أثير عن جدوى هذه الخطوة، خصوصاً مع وجود مواقف سلبية تجاه مصر والسودان من بعض الدول الأعضاء في المجلس أثناء مناقشة ملف سد النهضة، يجب التأكيد على أن الأصل في حل النزاعات الدولية هو اللجوء إلى الوساطات بكافة أشكالها، حتى لا تعم الفوضى والحروب، وكان الهدف الرئيسي من هذه الخطوة هو وضع المجتمع الدولي مُمثلاً في مجلس الأمن أمام مسؤلياته في حفظ الأمن والسلم الدوليين، وإبراء الذمة (المصرية – السودانية) بخصوص هذا الملف الذي يمثل تهديداً لأمنهما القومي ولوجودهما ككل.
- غرد رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" صباح يوم 19 يوليو، مهنئاً الشعب الإثيوبي بما أسماه "اكتمال عملية الملئ الثاني"، وأشار آبي أحمد في تصريحات لاحقة لهذه التغريدة، إلى أن "عملية الملئ الثاني" اكتملت دون إحداث ضرر لمصر أو السودان، وهنا يوجد مفارقتين، الأولى أن الديكتاتور الإثيوبي، لم يصارح شعبه بحقيقة الملئ الثاني أو الكمية التي تم تخزينها من المياه، وهي الكمية التي بلغت 7 مليارات متر مكعب تقريباً للملئين الأول والثاني معاً، في حين أن المُخطط له كان 18.5 ملياراً، وذلك بسبب الفشل في استكمال أعمال التعلية في الممر الأوسط للسد (الارتفاع الحالي للسد حوالي 573 متراً، وكان المطلوب بالنسبة لإثيوبيا هو الوصول إلى 595 متراً، لكي يستطيع السد استيعاب نسبة المياه المقررة أي 18 مليار متر مكعب لكن إثيوبيا فشلت في ذلك).
المفارقة الثانية تتمثل في أن هذه التصريحات من "آبي أحمد" ومخاطبة المجتمع الدولي بأن عملية الملئ الثاني قد تمت دون الإضرار بمصر أو السودان، تعني أن الرجل مصمم على فرض سياسة الأمر الواقع، وهو الأمر الذي تتعامل مصر معه بحكمة شديدة، حيث التحرك لكسب أرضيات جديدة دبلوماسية وسياسية يوماً بعد يوم، مع الجاهزية للدفاع عن الأمن القومي المصري بكافة الأدوات والسبل.