جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

رغم الجائحة.. كيف نجحت مصر فى الحفاظ على استقرار الأسعار آخر عامين؟

منذ منتصف 2019 وحتى الشهر الجاري – أي حوالي عامين – ونلاحظ أن أسعار السلع الأساسية سريعة الاستهلاك وهى تتسم بثبات نسبي وحالة استقرار غريبة على المجتمع المصري، فى السابق خاصة الفترات التى عشتها وأنا واعي وبالغ، أي منذ بداية الألفية كان من الطبيعي أن نشهد زيادات بالأسعار كل عام بالتزامن مع العلاوة الدورية أو زيادات الأجور.

منذ منتصف 2019 حدثت عدة ارتفاعات فى مستويات الدخول نرصد منها على سبيل المثال لا الحصر:
- موازنة 2019/2020 رفع الحد الأدنى للأجور من 1200 ج إلى 2000 جنيه.
- موازنة 2021/2022 رفع الحد الأدنى للأجور من 2000 إلى 2400 جنيه.
- يوليو 2021 رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالقطاع الخاص من 1200 إلى 2400 جنيه.
- رفع المعاشات بصفة سنوية بقيمة لا تقل عن 13%.
- يوليو 2020 : صرف خمس علاوات استثنائية لكل من خرج على المعاش بين 2006 و2015.

ورغم كل هذه الإجراءات الصعودية على مستوى دخل الفرد والإيجابية على صعيد مستويات المعيشة، إلا أنها لم يقابلها زيادات مماثلة فى الأسعار بل على العكس رصدنا حالة أشبه إلى الاستقرار فى الأسواق.

هذا الاستقرار يرجع إلى عوامل رئيسية يأتي على رأسها الاستثمارات الضخمة التى وجهتها الدولة ناحية الإنتاج الزراعي وأهمها على الإطلاق هو مشروع الدلتا الجديدة الذي تقدر تكاليفه الاستثمارية بـ 300 مليار جنيه لاستصلاح وتنمية ما يصل إلى 2.2 مليون فدان، أيضاً مشروع المليون ونصف مليون فدان ومشروعات الصوب الزراعية خاصة فى الاتجاه الشمالي الغربي ساهم بشكل كبير فى زيادة المعروض من السلع الزراعية والاحتياجات الأساسية للغذاء فى أي بيت مصري.

مصر دولة زراعية منذ آلاف السنين، على ضفتي نهر النيل شيدنا أعظم حضارة عرفها العالم وبفضل الزراعة والري والهندسة بنينا الدولة المصرية أول دولة فى التاريخ، ومن شدة تعلق المصري القديم بالأرض والنهر خصص يوماً فى السنة ليكون عيداً للنيل، يشير نص مديح في بردية تورينو، تعود إلى الأسرة 19، قام بترجمته العالم المصري رمضان عبده ويقول :

"إنه هو الذي يروي المراعي، هو المخلوق من رع (رمز الشمس) ليغذي الماشية، وهو الذي يسقي الأرض الصحراوية البعيدة عن الماء. ماؤه هو الذي يسقط من السماء، إنه هو الذي يأتي بالقوت، وهو الذي يكثر الطعام، وهو الذي يخلق كل شيء طيب، ويمدحه الناس".

الإنتاج الزراعي فى مصر الحديثة يمثل من 13-15 % من الناتج المحلي الإجمالي والسلع الغذائية تمثل أغلب الوزن النسبي لمعدل التضخم من خضر وفاكهة وألبان وأجبان وبيض وسمك ودواجن ولحوم ...إلخ.

وبالتالي لو ارتفعت أسعار هذه السلع، ارتفع معها معدل التضخم ولكن لو رصدنا هذا المعدل طيلة الشهور الماضية نجد أنه شبه مستقر فى النطاق المستهدف المتوازن له بين 5 % و 9% بل أنه فى بعض الشهور قد انخفض أسفل النطاق المستهدف من البنك المركزي عند 5% وسجل 4% و3% فى بعض الأوقات، تذكر أننا فى صيف 2017 نعاني من معدل تضخم مفرط تجاوز الـ 40% فى ذلك الوقت لكنه كان تضخماً مؤقتاً وليس مستداماً واستطعنا معالجته والحيلولة دون استمرار ارتفاعه وهو ما تحقق بالفعل فى السنوات اللاحقة.

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء

العامل الثاني وراء نجاحنا فى السيطرة على مستويات الأسعار هو قدرتنا على التخزين، قامت مصر برفع قدراتها على تشوين المحاصيل والحبوب وحفظها فى صوامع متطورة بتكنولوجيا متقدمة بدلا من رميها فى أجولة داخل أسوار سلكية دون مظلات ومعرضة للشمس والأتربة ما يؤدي إلى فقد هائل فى ثرواتنا الزراعية.

استطعنا بفضل تطوير قدراتنا التخزينية فى القضاء على الهدر من القمح على سبيل المثال وهذا الهدر كان يضيع علينا نحو 15% من إنتاج القمح ويكلفنا سنويا نحو 4.4 مليار جنيه، وزادت السعة التخزينية للدولة المصرية من محصول القمح إلى 3.4 مليون طن عام 2020 بدلا من 1.6 مليون طن عام 2016.


ثالث هذه العوامل وراء استقرار التضخم وأسعار السلع الأساسية هو تعزيز قدرتنا على الاكتفاء ذاتيا من أهم المحاصيل والسلع والمنتجات والمواد الخام المختلفة وتقليل الهدر وخفض الاستيراد، استطاعت مصر تحقيق الاكتفاء الذاتي فى الخضر والفاكهة والأرز والذرة البيضاء والرفيعة والبصل والتمور والدواجن والأسماك واللحوم والألبان والبيض.

ليس هذا فحسب، من المخطط الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من السكر العام القادم، والعام الذي يليه سنكون فى انتظار تحقيق اكتفاءً آخر لا يقل أهمية عن السلع الزراعية وهو مُدخل رئيسي من مدخُلات تسعير أي سلعة فى السوق: المواد البترولية، حيث من المخطط بحلول 2023 أن يغطي الإنتاج المحلي الاستهلاك واحتياجات المجتمع.

كل هذه المشروعات والجهود الهائلة التى تكللت بالنجاح هى السبب الرئيسي وراء استقرار الأسعار فى مصر الفترة الأخيرة ، ثبات الثمن بجانب وفرة السلعة هى قوة اقتصادية جبارة ومكون رئيسي فى مصفوفة أمننا القومي الشامل، نجحنا فى هذا التحدي بعد سنوات من الطوابير والسوق السوداء والعجز والعوز، نجحنا فى هذا التحدي رغم جائحة كورونا، نجحنا فى هذا التحدي رغم مرور موسمين لشهر رمضان الذي يتسم بتضاعف الاستهلاك فى أيامه ولم نلحظ أي نقص فى السلع ولم نعاني مع الأسعار أو توافر احتياجاتنا اليومية فى محلات البقالة والسوبر ماركت.