جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الديني والحضاري في المسألة الفرعونية

الموضوع ليس جديدا في الحقيقة، لكنه متجدد، ولا يخلو وقت من الأوقات من التعريج به. نعتز بتاريخنا الفرعوني اعتزازا عظيما كاعتزازنا بالأجداد الأقربين، لكننا نعلم أنهم، من جهة الدين، لم يكونوا يهودا ولا مسيحيين ولا مسلمين، بل ارتبطوا بالفَلَك ارتباطا وثيقا في تصوراتهم الدينية (كتابهم نوت يدل على ذلك بوضوح وقوة)، وأما المشايخ على المنابر وفي قاعات الدروس فيصفونهم بالوثنيين، والمتشددون يروجون لطغيانهم وفسادهم وسوء عقيدتهم، بل يدعو بعض هؤلاء المجانين إلى تدمير المعابد وهدم الأهرامات وأبي الهول وتشويه التماثيل والمقتنيات وإزالتها جميعا!
الحضارة الفرعونية فخر تاريخي للمصريين؛ فقد قامت تلك الحضارة على قاعدة توحيد القطرين (الشمال والجنوب بمصر) حوالي العام 3150 قبل الميلاد، وتركزت على ضفاف نهر النيل وتكيّفت على ظروف واديه بامتداد بلادنا في الشمال الشرقي لإفريقيا، تطورت تلك الحضارة على مدى الثلاث ألفيات اللاحقة، وتخلل ذلك كله استقرار ممالك مصر القديمة سياسيا وأيضا ارتباكها السياسي في الفترات المتوسطة خصوصا، ثم بلوغها ذروتها الحضارية في عصر دولتها الحديثة، ثم انحدارها ببطء وتعرضها للهجوم من الغرباء، وقد انتهى حكم الفراعنة لمصر رسميا مع غزو الإمبراطورية الرومانية للبلاد، في حكم الملكة كليوباترا آخر الحكام، وصارت مصر إحدى مقاطعات الرومانيين.
هكذا (كما تقول المراجع والموسوعات المعتبرة) باختصار شديد أرجو ألا يكون مخلا.. وفي تاريخ الحضارة الفرعونية الطويل الحافل، ما لا يعد من الأعمال الجليلة الرفيعة، لعل أبرزها وأهمها العمارة الشاهقة المتينة ذات التهوية الممتازة والأسرار المعمارية السابقة لعصورها، وما لا يعد من الأطاريح الفكرية النيرة المثبتة على ورق البردي، ومن الأقوال والوصايا والحكم والأمثال البليغة المنقوشة على الحيطان، ومن الفنون الآسرة الخالدة متعددة الألوان والأشكال.. ومن الأحداث التي انتظمت ذلك كله، وما أكثرها وما أخطرها!
تاريخ عبقري مثير؛ من الضروري حفظه وفهمه والاحتفاء به والتغني بمنجزاته ومعجزاته، ومحاولة إدراك تفوقه على الرغم من كل ما تعرض له من محبطات وما فُرِض عليه من صراعات!
يستكثر رجال الدين، إلا الذين نجوا منهم من أسر التقليد الأعمى الذي بلا حجة والظلمة المظنونة نورا، يستكثرون على المصريين الفخر بحضارتهم القديمة العظيمة التي فيها منعتهم وعزتهم، ويخلطون الديني بالحضاري خلطا بائسا، كمن يريدون تحويل رضا الناس عن تاريخ أجداداهم إلى سخط على عقيدة أولئك الأجداد.. زاويتهم الوحيدة هي زاوية القرآن والفقه (بدون وعي عصري) وسؤالي بهذا الخصوص: ما الداعي إلى خلط الديني بالحضاري، ولماذا يتم خلطهما كأنهما وجهان متناقضان يلغي أحدهما الآخر؟! 
الصواب هو عدم صحة خلطهما أصلا، كما أن الحضاري يشمل الديني بالأساس، ولكل عهد حضارة تضم اعتقادا دينيا يخصها، ومن الخطأ الشديد قياس معتقدات السابقين الدينية بمعتقدات لاحقيهم؛ فالواقعان مختلفان والظرفان مختلفان!