جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«عمامة مستنيرة».. أسباب رؤية عبدالمتعال الصعيدي أن «الخلافة» ليست من ضرورات الدين

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يذهب الدكتور أحمد محمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة طنطا، في كتابه "العمامة المستنيرة.. تجديد الفكر الديني عند عبدالمتعال الصعيدي"، والصادر حديثًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إلى أن الشيخ عبدالمتعال الصعيدي اعتنى بالمسألة السياسية ووضعية الدولة بين الروحي والزمني ضمن مجموعة من أعماله ومقالاته، كان منها كتابه الذي رد فيه على خالد محمد خالد بعنوان "من أين نبدأ"، هذا بالإضافة إلى كتابيه "السياسة الشرعية في عهد النبوة"، و"السياسة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين".

ويعترف الصعيدي بخروج الخلافة الراشدة عن مسارها ابتداءً من عهد عثمان، وأن الخلاف قد دبَّ بين المسلمين، ولم يسد من هم مثل أبوبكر وعمر فيقول: "خلا الجو لمن لم يكن مثل سابقتهم في الإسلام، ولمن لن يكن مثل فهمهم لرسالته على وجهها الصحيح، فخرجوا على هذه القواعد، وشقوا عصا الجماعة بالخروج عليها بالسيف، فضاعت الشورى التي لا يكون الحكم فيها لقوة السيف بل لقوة الرأي، وضاعت حرية الرأي التي لا تجتمع هي والسيف في قراب واحد، وكانت أولى من خرج على هذه القواعد ناشئة من الأعراب وشذاذ الأمصار التي وصلت حديثًا في الإسلام فخرجوا على الخليفة الثالث بسيفهم، ثم خرجوا بعده على الخليفة الرابع فمهدوا الطريق لبني أمية في الوصول إلى الحكم بقوة السيف، ومكنوها من القضاء على عهد الشورى الذي وقف عند حدوده الخلفاء الراشدون".

وإذا كان خالد محمد خالد يشير إلى أن مرحلة أبوبكر وعمر كانت مرحلة استثنائية ترجع الميزة فيها إلى خصال شخصية في أبوبكر وعمر فإن الصعيدي يعترف بما كان لهما من خصال ومميزات، ولا ينكر ذلك ولكنه يضيف أيضًا بأن نجاحهما يرجع أيضًا إلى التزامهما حدود الدين، وما يهمنا في ذلك أن الصعيدي كان ينظر إلى مرحلة صدر الإسلام على أنها المرحلة النموذج، وهي المجتمع المتخيل الذي طبق الإسلام في الواقع رغم ما دبَّ من خلاف بين المسلمين منذ عهد عثمان، وهو نفس توجه التيارات السلفية الآن تجاه هذه المرحلة.

ويلفت سالم إلى أنه ورغم الإشارة الكبيرة للصعيدي لتجربة صدر الإسلام وكتابته عنها بكثافة إلا أنه لم يكتب بنفس القدر عمَّا تم عبر تاريخ الإسلام من استبداد ووراثة الحكم إلا قليلًا جدًا، لأنه كان ينظر إلى حقبة الخلافة منذ معاوية وحتى سقوطها على أنها لا تمثل لروح الحكم في الإسلام ولا أصوله العامة، ومع ذلك نجده يدين هذه الحقبة فيقول عن التحول الأموي: "كان هذا أول انقلاب خطير في الإسلام، مهد لاستبداد الملوك، وانتزاع سلطة التولية من الأمة ليرثها الأبناء عن الآباء، ولا يكون للأمة فيها رأي، اللهم إلا بتلك البيعة الصورية التي تؤخذ بالحيلة أو القوة كالمبايعة التي أخذها معاوية لابنه يزيد وهي مبايعة باطلة، لأن المبايعة الصحيحة لا تكون إلا بعد مشاورة الأمة، حتى تبايع بعد تبادل الرأي، وتكون مبايعتها عن رضا واختيار صحيحين، وبهذا تعرف من تولية الأمة أن لها حق العزل، أما من يأخذ ذلك بالقوة أو الوراثة، فلا يخشى جانبها ويسير على حسب إرادته عدلًا أو ظلمًا، وكثيرًا ما يؤثر الظلم على العدل لأن النفس أمارة بالسوء".

وهنا يبدو مدى النقد المبطن الذي يوجهه الصعيدي لتاريخ الخلافة في الإسلام وينتقد الصعيدي كلام خالد محمد خالد حول إيثاره للحكومات القومية على الحكومات الدينية، وأنه يتجاهل نجاح الحكومة الدينية في مرحلة مبكرة، وإن كانت محدودة في التاريخ الإسلامي ولكنها ممكنة، وهنا يبدو الصعيدي ينظر إلى المرحلة المتخيلة في تاريخ الإسلام على أنها كانت المرحلة النموذج، وينتقد توجه خالد محمد خالد إلى الحكومات القومية لأن الحكومات القومية التي يعترف خالد محمد خالد بفسادها لا يلزم أن تكون حكومة قومية دستورية، بل الغالب أنها حكومة مستبدة ليس فيها رأي عام قادر على أن يزلزلها، وليس فيها معارضة تعد واجبًا وطنيًا وأمانة قومية، ووظيفة سياسية يقدمها الدستور، لأنه لا دستور في الحكومات الحكومية المستبدة، وليس فيها إلا حاكم مستبد هو كل شيء، وقد يكون أمره أقسى من الحكم الديني المستبد، لأن الحاكم الديني يشعر بسلطة ما للدين عليه، أما الحاكم القومي المستبد فلا يشعر بسلطته وراء سلطته. ولهذا يرى الصعيدي أن الحكومات القومية منها المستبد والدستوري، وكذلك الحكومات الدينية فيها المستبدة والدستورية أيضًا، ولا ينبغي أن نحاسب ما هو دستوري بما هو مستبد، فما يريد الصعيدي قوله أن الاستبداد السياسي ليس قاصرًا على الحكومة الدينية ولكن موجود في الحكومة القومية.

ــ لهذه الأسباب يرى عبدالمتعال الصعيدي أن "الخلافة" ليست من ضرورات الدين، ويذهب الصعيدي إلى أنه في حالة تطبيق المبادئ العامة التي تعبر عن الإسلام، يمكن القول بأن الإسلام يعيش في أي صورة للحكم طالما كان يمنح مبادئ الإسلام حق التحقق في المجال الاجتماعي، وأن الذين يطالبون بحكومة دينية لا ينادون بها على غرار الحكم المستبد في تاريخ الإسلام، ولكنهم يبتغونها حكومة دينية دستورية تتحقق بالعدل والشورى، وتحقق مصالح المجتمع المسلم، وتطبق التشريعات التي تخص الإسلام كدين، ومن ثم فإن الصعيدي يرى أن عصرنا قد تجاوز تجربة الخلافة في الحكم، وأن الخلافة ليست من ضرورات الدين فيقول: "إن ظروف عصرنا يتعذر معها أن تقوم خلافة إسلامية، ويجتمع المسلمون في ظلها، فلا تصح المطالبة بها مع هذا التعذر، ولا شك أن الخلافة الإسلامية بالشكل السابق ليست من ضروريات الدين، ولهذا اختلف المسلمون في موضوع الحكم اختلافًا كبيرًا"، ويعتبر الصعيدي أن نظام الحكم الجمهوري الديمقراطي القائم على الدستور هو أقرب الأنظمة تطابقًا مع روح الإسلام.

ولم يكن يهم الصعيدي في مسألة الحكم الديني سوى الصبغة الدينية في الروح الكلية العامة للإسلام، ولم يتوقف عند مسألة شكل الحكم لأن الإسلام لم يحدد هذه المسألة، ولهذا نجد اجتهاد الصعيدي في موقفه من أهل الذمة والأجناس المغايرة، فلا يضيق بهم الإسلام ويقول: "لأنه دين عالمي- الإسلام- لا يخص جنسًا من الأجناس، ولأنه لا إكراه فيه مع الإيمان به، فيجب أن يقبل في حكمه المخالفين له، ويجب أن يرعاهم كما يرعى من يدين به، ولا شك أن حسن معاملته لهم مما يرغبهم فيه ويجعلهم يدينون به طوعًا، ويؤثرونه على ما نشأوا عليه من أديانهم، أما سوء معاملتهم فإنها تكرهم فيه، وتثير في نفوسهم التعصب عن محاسنة، ويصرفهم الحقد عن الإيمان به"، ويتغافل الصعيدي عن نقد تراث أهل الذمة في الفقه الإسلامي الذي صنع التمايز بين المسلم وغير المسلم، وأعلي من شأن المسلم علي غيره من أصحاب الأديان الكتابية.

ــ هكذا رسخ "الصعيدي" لقيم الليبرالية والعلمانية
ومن هنا بدأت القراءة الليبرالية للشيخ الصعيدي- الوفدى الانتماء- فإنه يرسخ للقيم الليبرالية والعلمانية فيقول: "إنه وفق ما جاء به الإسلام أن الدين لله والوطن لجميع الناس ليعيشوا فيه إخوانًا في الدنيا على اختلاف أديانهم، ويترك أمر حسابهم على أديانهم لله وحده في آخرتهم، فشأن الدنيا يخالف شأن الآخرة، لأنها ليست محل الثواب والعقاب عن العقيدة وإنما محلها الآخرة وحدها، ولا شك أن هذه القاعدة العظيمة يجب أن تراعى في وضع الدساتير الحديثة للحكومة الإسلامية فيكون الأصل في هذه الدساتير أن يعامل فيها أهل الذمة كما يعامل المسلمون، وأن يكون شأنهم في حقوقهم وواجباتهم كشأنهم، حتى لا يفترقوا فيها إلا في الشئون الدينية المحضة، أما الشئون الدنيوية فيجب أن يكونوا فيها سواء لأنها لا شأن لها بالدين، وقد يكون في أهل الذمة من هو أدرى بها من المسلمين"، وهنا نلاحظ أن الصعيدي يتجاوز النظر في فقه أهل الذمة ويرسخ للمواطنة الحديثة، ويرى أنها لا تتعارض مع الإسلام، وكان أقرب في رؤيته هنا لفصل المسار الديني عن السياسي الدنيوي، حين يقول بأن الجميع سواء في أمور الدنيا التي لا شأن للدين بها، وقد يكون الآخر الكتابي المغاير لي في الدين أمهر من المسلم في شئون الدنيا فينبغي أن يأخذ استحقاقه كمعادل لكفاءته، هذا يكشف لنا عن مدى تقدميه الشيخ الصعيدي ورؤيته التجديدية العقلانية المستنيرة.

ــ اجتهادات عبدالمتعال الصعيدي في ترسيخ مبدأ المواطنة
ويمتد اجتهاد الصعيدي في سعيه نحو ترسيخ مفاهيم المواطنة الحديثة كبديل لتراث أهل الذمة القديم، وأنه في ذلك لا يتعارض مع الروح العامة للإسلام رغم أنه يقع في استخدام المصطلحات الفقهية التقليدية، فيقول: "يعطي أهل الذمة حق المشاركة في دخول المجالس النيابية التي تمثل السلطة التشريعية الحديثة، وهي إحدى السلطات الثلاثة، السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، فيكون في هذه المجالس النيابية من أهل الذمة من يمثلهم فيها، لأنهم أبناء الوطن الذي ولدوا فيه، ولهم فيه حقوق ومصالح دنيوية مثل إخوانهم من المسلمين فيجب أن يكون لهم رأي بجانب رأيهم ليشعروا بأن عليهم لهذا الوطن مثل ما لهم، ويدينون بالإخلاص له كما يدينون ويشاركون في الدفاع عنه كما يدافعون، ويعملون لرفعته"، ولم يكن الصعيدي ليكتب هذا لولا إيمانه العميق بالقيم الليبرالية والعلمانية والتي يرى أنها لا تتعارض مع الإسلام، ولهذا فقد ظل الرجل وفيًا لانتمائه الوفدي حتى مماته، وبعد قيام ثورة 1952 دعاه الضباط الأحرار للانضمام إليهم فرفض، وقال لهم إنه وفدي الانتماء.