جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

هيدي كرم و«حراس الفضيلة»

نشرت الفنانة "هيدي كرم" فيديو عفوي يجمعها بابنها "نديم" وهو يقوم بعمل تمرينات ضغط ويحمل والدته على ظهره، مع إشارة ذات دلالة جميلة صاحبت الفيديو أن "الأُسر تحمل أبنائها وهم صغار، والأبناء هم من يحملون أسرهم بعد نضوجهم"، وهو فيديو في مضمونه ومعناه يبعث على البهجة لدى أي إنسان سوي، ويعكس الرابط المقدس والعلاقة الجميلة التي تربط الأم بابنها، لكن بعض القطاعات المجتمعية المتسلطة أبت أن تفوت هذه الفرصة دون أن تمارس ما اعتدنا عليه خلال السنوات الأخيرة من فرض للوصاية، ونشر للقبح، والتأويل "الغريزي والجنسي" للسلوكيات، فانهال هؤلاء على الأم وابنها بتعليقات "فجة" تجمع بين التنمر، والاتهام بالانفلات الأخلاقي والعمل على نشر الرزيلة، بل خرج بعض "الثوريين الأخلاقيين" ليدعوا عليهما بالموت والمرض بسبب هذا الفيديو.
باتت قطاعات مجتمعية ليست بالقليلة تدخل في إطار من تسميهم بعض الدوائر الإعلامية والفكرية "حراس الفضيلة" أو "المحتسبون الجدد"، وهي القطاعات التي ترسم لأفراد المجتمع بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم الخطوط العريضة والنسق الذي يجب أن يتبعوه، كما أعطى هؤلاء لأنفسهم حق التسلط على الناس وتأويل تصرفاتهم والحكم عليها بل وعقابهم على إثرها، تحت ذرائع حماية الشرف والفضيلة و "القيم المجتمعية"، وقد استشرت هذه الظاهرة مع بروز التيارات الإسلاموية، والمد السلفي خلال العقود الأخيرة، وهو المد الذي استهدف تنميط المجتمع المصري بالنمط السلفي المتشدد، وترتبط خطورة تفشي وانتشار هذه العقلية التي تتجسد في مثل هذه الممارسات ببعض الاعتبارات، فقد سحب هذا النمط من التفكير من رصيد قيم الجمال والمحبة والتسامح، وساهم في نشر ثقافة الكراهية، وأصبح المكون الرئيسي للخطاب المجتمعي هو العنف "اللفظي" والتسلط، وبات الأصل في فهم أي ممارسات إنسانية هو التأويل والفهم الغرائزي والجنسي الذي يركز عليه "حراس الفضيلة".
ومؤخراً بدأنا نرى مستوى أصعب من نتائج سيادة هذا النمط من التفكير، حيث انتقل "حراس الفضيلة" من ممارسة "العنف اللفظي" إلى العنف الممنهج، وهو ما برز في قصة "سيدة السلام" التي قام مجموعة من المجرمين بإزهاق روحها رمياً من الطابق السادس، وكانوا قبل اغتيالها جسدياً قد اغتالوها معنوياً بالزور والبهتان الذي تحدثت به ألسنتهم عن الضحية، وبالتالي فنحن هنا نتحدث عن مستوى أصعب من فرض الوصاية، فقد تجاوز الأمر حدود البذاءات اللفظية والأذى النفسي، إلى حد إزهاق الأرواح، في انتهاك صارخ لأدوار السلطة التنفيذية، وتجاوز لمفهوم دولة القانون، وبطبيعة الحال لفكرة الحريات الفردية، فضلاً عن مقاصد الشريعة الإسلامية نفسها والتي جعلت حفظ النفس البشرية أهم مقصد لها، لكن هؤلاء يجدون في الثقافة السائدة، وخطاب الاتجاهات السلفية، ومن يوصفون بالدعاة الجدد، مبرراً لممارساتهم، ومشرعناً لها، ومشجعاً عليها، وذلك انطلاقاً من قناعات يكرس لها هؤلاء، تقول بأن أي عنف جسدي أو لفظي أو إيذاء نفسي يلحقه "حراس الفضيلة" بالشخص الذي رأوا انحرافه عن النسق والخط الذي رسموه للمجتمع، هو فعل مُبارك ويُثاب عليه فاعله، وهي أمور تعكس أن الإشكالية تجمع بين أسباب مرتبطة بقناعات دينية مغلوطة راسخة لدى هذه القطاعات المجتمعية التي تمارس التسلط تحت رداء الفضيلة، وأسباب نفسية جعلت هذه العقول تنظر إلى الأمور من منظور بشع غريزي وجنسي.
تحية للشجاعة هيدي كرم التي لم تجعل من هذه الأمراض المجتمعية سبباً لانتقاص فرحتها بإبنها، وأصرت على ترك الفيديو بالتعليقات المسيئة، أملاً في أن يواجه "حراس الفضيلة" أنفسهم ويراجعوا موقفهم.