جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

التاريخ الرائع لدير وادى الريان

فى مكتبتى المنزلية- التى ورثتها عن والدى الأستاذ بديع عبدالملك «1908 - 1979» خبير الآثار المصرية- عثرت على بحث قيّم لكبير وشيخ الأثريين وراهب الصحراء د. أحمد فخرى «1905 - 1973» بعنوان «وادى الريان» والمنشور بحوليات مصلحة الآثار المصرية عام 1949 بالمجلد رقم 46، صفحات «1- 19» ومزوّد بالعديد من الصور والرسومات التخطيطية. 
وقد ذكر د. أحمد فخرى فى بحثه القيم، أن اسم «الريان» كلمة عربية معناها «المُشبع بالماء»، حيث إن أرض الريان مليئة بالمياه والتى يمكن الحصول عليها على عمق أقل من مترين. ولكن المخطوطات القبطية القديمة ذكرت الاسم القديم للوادى- الذى يختلف عن الاسم الحديث- فقد ورد فى سيرة القديس الأنبا صموئيل المعترف بالقلمون أنه اعتاد أن يذهب من وقت لآخر للعبادة والتوحد فى هذا الوادى، وأطلقت عليه المصادر القبطية اسم «بيليهو» Pilihew، ولكن أبوصالح الأرمنى ذكر اسم «الريان» والمخطوطات المصرية القديمة التى وردت فى بردية «هاريس» ذكرت اسم «ربانا» Rabana، وذلك كما ذكر علماء المصريات جولونيشيف، جيكو، بروكش، فانرايت، وجوثير. كما كتب د. أحمد فخرى عن الكنيسة الحجرية التى بُنيت على قمة صغيرة التى من عندها يمكن رؤية منظر الأرض المنزرعة من الناحية الجنوبية. وقد بُنيت الكنيسة من الحجر الجيرى المتوافر بالمنطقة وتبلغ أبعادها «52 فى 26 فى 22 سنتيمترًا مكعبًا» فى المتوسط. المدخل الرئيسى كان من الجهة الشرقية وهناك باب آخر من الجهة الغربية. وقد بُنيت هذه الكنيسة بغرض العبادة للمتوحدين.
والقديس مكاريوس السكندرى «306 - 404م»- الذى سُمى دير وادى الريان باسمه- صار أبًا ومرشدًا روحيًا حقيقيًا لجميع رهبان القلالى القريبة من الإسكندرية حتى بلغ تلاميذه قرابة 5000 شخص. ومن الرسائل التى تركها قبل وفاته رسائل عن «نفوس الأبرار بعد الموت» طُبعت فى سويسرا عام 1696م.
ثم فى عام 2013 صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب بعنوان «وادى الريان المُشبع بالماء» للباحث محمد التداوى، ذكر فيه: «إحدى المناطق السُكنية الدائمة منذ ستينيات القرن العشرين وهى منطقة دير الأنبا مكاريوس السكندرى «306 - 404م»، وهو غير الأنبا مكاريوس الكبير الشهير الذى يقع ديره العامر بوادى النطرون. الدير يقع إلى الجنوب الغربى من منطقة الشلالات وفى الطريق إلى محمية وادى الحيتان. الدير كان مهجورًا حتى ستينيات القرن العشرين إلى أن حصل الأب متى المسكين على التصاريح اللازمة لتعمير الدير المهجور وقتها، ثم سمحت السلطات المختصة للرهبان بالحياة فى الدير بعد ذلك، وهو ما قد كان، وكبر الدير وزاد عدد الرهبان الملتحقين به، الذين أرادوا السير على نهج الأب القديس مكاريوس السكندرى بالتخلى عن مُتع الحياة الدنيا والانعزال عن العالم من أجل الصلاة، والآن بعد نصف قرن تقريبًا أصبح الدير علامة بارزة فى منطقة المحمية وأنشأوا بعض المنشآت التى استخدموها فى الإقامة، ثم أقاموا حديقة صغيرة للدير واستغلوا بعض مياه عيون الريان لرى هذه الحديقة». ثم يضيف الأستاذ محمد التداوى، قائلًا: «لماذا لا تشارك إدارة المحمية رهبان هذا الدير فى رعاية وتحسين أحوال المحمية؟ حيث إنهم مقيمون بصفة دائمة ويرصدون أفضل من غيرهم المخاطر والتغيرات التى قد تطرأ على المكان أفضل من غيرهم؟، وبهذا يشكلون نقطة من نقاط الرصد التى حتمًا ستفيد». لكن للأسف الشديد فإن الكنيسة فى بيانها الذى صدر فى 11 مارس 2015 تبرأت من الرهبان وأنكرت- عن غير معرفة- وجود دير!! وبذلك عرضت حياة بشر آمنين- جاءوا من أجل العبادة الصادقة- لمخاطر جمة لا يعلم أبعادها أحد إلا الله وحده. 
أعود وأقول، إنه فى عام 1961 عندما توجه الأب متى المسكين ومجموعة رهبانه- على إثر مشكلة مع الكنيسة- اختار أن يقيم فى تلك المنطقة. لماذا؟ الأب متى المسكين منذ شبابه المبكر مُلم بتاريخ الكنيسة، وعند بداية رهبنته ترهبن على يد القمص مينا البراموسى المتوحد «فيما بعد البابا كيرلس السادس البطريرك 116» بدير الأنبا صموئيل المعترف بالقلمون حتى إنه أخذ اسم «الراهب متى الصموئيلى»، وما زلت أحتفظ بخطابات منه كان قد أرسلها لوالدى عام 1948 بتوقيع الراهب متى الصموئيلى، وكان يعلم أن القديس صموئيل المعترف «مؤسس دير الأنبا صموئيل بالقلمون» كان يتردد كل فترة على منطقة وادى الريان للعبادة والتوحد. فأراد الأب متى المسكين أن يحذو طريق مُعلمه، فتوجه وأقام بتلك المنطقة حتى 9 مايو 1969 حينما استدعاه البابا كيرلس السادس «1902 - 1971» البطريرك 116 وطلب منه ومجموعة رهبانه أن يتوجهوا لتعمير دير أنبا مقار بوادى النطرون بعد أن ساءت حالته الرهبانية والمعمارية. وبذلك أحيا الأب متى المسكين الحياة الرهبانية فى وادى الريان ثم جاء تلميذه الوفى الأب اليشع المقارى واستكمل مسيرة مُعلمه. لذلك من العادى- بل من المتوقع كما ذكر لى أحد أساقفة الكنيسة القبرصية- أن الأب متى المسكين لا بد أن يواجه باضطهادات وحروب من قادة الكنيسة!! لكن وعد الله الصادق والأمين: «إن نسيت الأم رضيعها، أنا لا أنساكم». وبدلًا من أن تحتضن الكنيسة أبناءها المخلصين الذين يدافعون عن تراثها وتاريخها وأماكن قديسيها تقوم بالتخلى عنهم وتسليمهم للهلاك البشرى!! لكن: «من يقدر أن يؤذيكم؟» وهذا وعد صادق وأمين من الله تبارك اسمه.
المشكلة الموجودة حاليًا أن الكنيسة أعلنت عن أن تنفيذ القانون واجب، وهذا أمر جيد ومطلوب، لكنها تناست أنه فى انتخاب أسقف الإسكندرية عام 2012 تغاضت تمامًا عن قانون مجمع نيقية- المنعقد عام 325م- فى قانونية اختيار أسقف الإسكندرية والشروط الواجب توافرها فيه!! فلم تتبع قانون نيقية الذى وضع شروط اختيار أسقف الإسكندرية وأساقفة الكراسى الرسولية الأخرى.