جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المحاماة صريعة بيد أبنائها

أقول، والأسف يقطع من شرايينى، إننى رأيت فى السنوات القليلة الماضية المحاماة وهى تقع صريعة على يد أبنائها، ورأيت الكبار فى عالمها وهم يكذبون ليكسبوا معارك رخيصة، وكانت نكبتى فيهم كبيرة، فالكبير عندما يمارس الصغائر لا يهوى بنفسه فى القاع ولكنه يهوى أيضًا بالمحاماة التى يمثلها.
ويبدو أن الكبار نسوا أن الناس تفنى والمعانى تبقى، والمبانى تنتهى والأخلاق إلى بقاء، وحينما رأيت أن انتخابات نقابة المحامين الأخيرة قد تركت وراءها آفات، وانتُهكت بسببها حرمات، بغرض الثأر النفسى والقتال غير الشريف، لذلك آثرت أن أكتب دفاعًا عن المحاماة التى أساء أصحابها إليها فأساء الناس فهمها، فلعنوا فى سرائرهم المحاماة.
رأى بعضهم أن المحامى مهما كان شرفه فهو لا يتورع عن مهاجمة القيم النبيلة ليحقق مصلحة من رأوه مجرمًا، قال الجاهلون عن المحامى إنه ذلك الذى يتلاعب بالكلمات، ويبحث عن ثغرات القانون ليساعد المجرم على الإفلات من العقاب، ويا له من ظن بائس يفتقر إلى العدل والحق، هو مثل الظن الذى وقعت فيه مجموعة من جوارى قصر الخديو فى نهايات القرن التاسع عشر عندما تزوجت إحداهن من المحامى النابه العبقرى إبراهيم الهلباوى، فعندما قمن بزيارتها بعد زواجها بكين وأخذن يندبن حظها، فتعجبت العروس، وقالت لهن: ولم ذلك؟ قلن لها: لقد علمنا أن مهنة زوجك هى «احتراف الكذب والتزوير» فضحكت العروس وأفهمتهن أن المحاماة هى مهنة النبلاء.
وحين وقف الهلباوى مدعيًا عامًا فى قضية دنشواى الشهيرة، كان يترافع بلسان حال الضباط الإنجليز، يشرح مشاعرهم وخوفهم إذ هجم عليهم الفلاحون فى دنشواى، كانت المحكمة برئاسة بطرس غالى باشا، وكان الرأى العام كله ضد الإنجليز، وأصبح الهلباوى بسبب مرافعته هذه عدوًا للشعب، حتى إن حافظ إبراهيم كتب فيه شعرًا قال فيه:
أنت جلادنا فلا تنسَ أنّا ** قد لبسنا على يديك الحدادا
ولكن الهلباوى لم يحفل بالرأى العام، ولا بالهجوم الذى تعرض له، وأنّى له أن يفعل وهو أحد الآباء المؤسسين للمحاماة فى مصر فى عهدها الحديث.
وبعد سنوات قليلة وقف الهلباوى مترافعًا عن إبراهيم الوردانى الذى اغتال بطرس باشا غالى الذى كان رئيسًا لمحكمة دنشواى! وكانت هذه القضية من القضايا التى انحاز فيها الرأى العام للقاتل معتقدًا أن دوافعه كانت وطنية، فسيطرت الدهشة على المجتمع المصرى، أجلاد دنشواى يترافع عن مصرى فى قضية رأى الجمهور أنها قضية وطنية؟! ولكن من سيطرت عليهم الدهشة لم يعلموا أن المحاماة هى المهنة التى يتماهى فيها المحامى مع شخص موكله، فيكون لسان حاله، وترجمان مشاعره، ولكن إذا كان الناس قد جهلوا هذا فإن المحامين كانوا يعرفون ويعلمون ويألمون، لذلك حين أُنشئت نقابة المحامين عام 1912 انتخب المحامون بأغلبية ساحقة «الأستاذ» الهلباوى ليكون أول نقيب للمحامين، وكأنهم يضمدون بهذا الموقع جراحه.
وحين يقف المحامى ليدافع عن المتهم، فإنه بالبداهة لا يدافع عن الجريمة، ولكنه يدافع عن ذلك الذى نُسبت إليه الجريمة، وهو حين يترافع عن موكله يبدو وكأنه يترافع عن نفسه، وأحيانًا لا يستطيع المحامى أن يفصل نفسه أثناء المرافعة عن موكله، ويظهر ذلك جليًا عندما يندمج فى مرافعته فيقول مثلًا: «إن التهمة التى وجهت إلىَّ تهمة باطلة»، وهو يعنى بطبيعة الحال التهمة التى وجهت إلى موكله، هذا الاندماج فى حقيقة الأمر هو ملمح من الملامح الرسالية فى المحاماة، وأظن أن المحاماة فى أمسّ الحاجة الآن إلى من يترافع عنها ويدافع عن رساليتها، تلك الرسالية التى يظنها الغافلون «صناعة الكذب والتلفيق والتزوير»، ورغم أننى أجدنى أتحدث عن بديهيات، فإنه عندما يسود الجهل تصبح البديهيات منكرة.
ويحكى لنا التاريخ الموقف الذى حدث مع المحامى الفرنسى الفذ «فرنسوا لاكارد» الذى وقف إبان الثورة الفرنسية مترافعًا عن الملكة مارى أنطوانيت، كانت الجماهير الغاضبة تقف خارج المحكمة فى انتظار حكم الإعدام، كانت تتوق شوقًا لفصل رقبتها بالمقصلة، وكانت الصيحات الغاضبة تصل إلى «لاكارد» ولكنه لم يهتم بالجماهير التى من الممكن أن تفتك به، وأخذ يفند الاتهامات ببراعة شديدة، فما كان من المدعى العام «فوكيه» إلا أن أمر بإلقاء القبض عليه بزعم أنه ببراعته هذه يكون قد وضع نفسه فى صف أعداء الثورة.
المحاماة يا أبناء تلك المهنة الرسالية ليست هى رسالة الغبى الذى يتذاكى على الناس أو على القضاء بخلط الأوراق، ولكنها مهنة الذكى الذى ينفُذ بعقله وفراسته إلى الحقيقة دون تلاعب، المحاماة هى مهنة أصحاب الفكر والثقافة والبلاغة والفصاحة والأدب، هى المهنة التى يؤمن صاحبها بما يقوله وبما يدافع عنه، هى مهنة يندمج صاحبها مع من يدافع عنه وكأنه هو، قال إبراهيم الهلباوى عنها: «إن أسمى مراتب المحاماة وأعلى معانيها هو أن يقفوا فى جانب مظلوم تحالفت عليه القوى، وأن يتحملوا معه شطرًا مما يقاسيه»، لذلك كانت هذه المهنة تحمل جانبًا رساليًا، ولا أظنكم تعلمون أن سيدنا هارون كان أول محامٍ عرفته البشرية، نعم كان هارون محاميًا، وكان المتهم هو سيدنا موسى، عليه السلام، فحين كان سيدنا موسى يسير فى الطريق ذات يوم وجد اشتباكًا بين واحد من شيعته ورجل من عدوه «فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه»، فكان أن هرب موسى من مصر، وظل سنوات وسنوات بعيدًا عن بلده، غريبًا فى بلاد أخرى، إلى أن قيض الله له أمرًا فعاد إلى مصر، وحين مر بالوادى المقدس طوى أوحى الله له «اذهب إلى فرعون إنه طغى * فقل له هل لك إلى أن تزكى»، ولكن عقبة وقفت أمام موسى، فقد تذكر ذنبه القديم حين قتل المصرى، فخاف أن يقتله فرعون لهذا الذنب، لذلك قال لرب العزة «قالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ* وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِى»، فشد الله عضده بأخيه الفصيح، وبذلك تم توكيل هارون للدفاع عن أخيه موسى بسبب فصاحته وبلاغته وقدرته على البيان، فأصبح هارون محاميًا لأخيه، ومن بعده أصبحت المحاماة مهنة النبلاء والعظماء.
كانت المحاماة هى مهنة «سيسرون» أفصح فصحاء روما، والمهاتما غاندى، وإبراهام لنكولون، وفرنسوا لاكارد، وبيرييه، وروبسبير، ودانتون، وجاك فرجاس، وسعد زغلول، والهلباوى، ومرقص فهمى، وعبدالكريم رءوف، ومصطفى النحاس، ومصطفى مرعى، ومكرم عبيد، وشوكت التونى، وأحمد الخواجة، وعلى منصور، ومحمد عبدالله، وعاطف الحسينى، ومحمد كمال عبدالعزيز، وفتحى سرور، هى مهنة الرؤساء والأدباء والشعراء والفنانين، هى الفن والعلم والموهبة والنجدة والمروءة، هى الشجاعة والإقدام، يقف فيها المحامى ضد الرأى العام أحيانًا، وضد الحكومات والأنظمة أحيانًا أخرى، وهو فى وقفاته وسكناته ولمحاته ولفتاته يدافع عما يعتقد أنه حق، وفى سبيل ما يعتقده قد يضحى بحياته إذا نقم عليه الناقمون وأصحاب المصالح.
ما زلت أذكر ما حدث ظُهر أحد أيام أواخر حقبة الثمانينيات عندما انتهى المحامى الفذ العبقرى عاطف الحسينى من المرافعة فى محكمة جنايات شمال القاهرة أمام دائرة المستشار الأديب الفقيه العلامة جمال عبدالحليم، رحمهما الله، كانت المرافعة فى قضية خطيرة أثارت الرأى العام أشهرًا طويلة، وكان عاطف الحسينى قد بزغ نجمه فى المحاماة منذ سنوات طويلة فى ظل وجود مجموعة من عمالقة المحاماة وقتها، إلا أن الحسينى فاقهم جميعًا وأصبح أسطورة من أساطير المحاماة نادرًا ما تتكرر، وبعد أن انتهى من مرافعته كان السكون قد خيم على القاعة، فالساحر اللبيب عاطف الحسينى قد أعمل سحر كلماته فى قلوب جميع الحاضرين، وبعد أن طوى الحسينى أوراقه رفعت المحكمة الجلسة للمداولة، وأخذ الحسينى طريقه خارج القاعة والاطمئنان يلفه والرضا باديًا على وجهه، وإذا بأحد الخصوم يهجم عليه وهو يحمل سكينًا فى يده ثم ينهال عليه بغتة ليمزق وجهه بحرفية واقتدار قاصدًا تشويه وجهه، وقع المحامى الفذ على الأرض مثخنًا بجراحه وانكب عليه المعتدى يريد أن يسيطر على فكيه ليخرج لسانه ويقطعه، ولكن ضربة قوية من أحد المحامين الذين كانوا بصحبة الحسينى أوقعت المعتدى ومنعته من الاستمرار فى التعدى، وكأن عقاب المحامى هو قطع لسانه! وليتهم يعلمون أن لسان المحامى أكثر صلابة من الحديد، وبعد أشهر قليلة كان الحسينى يترافع أمام محكمة جنايات بنها، كان الحزن باديًا عليه ويبدو أنه أصبح رفيقه بعد واقعة الاعتداء عليه من خصمه الشرير، وأثناء المرافعة انفعل الحسينى وهو يشرح أحد الأخطاء القانونية فى القضية، وعندما اشتد فى الانفعال سكت برهة وأخذ يتحسس رأسه، ثم أنهى مرافعته وذهب إلى استراحة المحامين ليجلس منكفأً على وجهه، ويسكت قلبه عن النبض، ويسكت هذا المحامى إلى الأبد.
لذلك يحق لى أن أقول فى غير مبالغة إن المحاماة هى «المهنة الرسالية» حسب أن أصحابها يحملون على كاهلهم رسالة إنسانية هى رسالة النجدة، وهى رسالة تجعل صاحبها من أصحاب المروءة والشهامة والنخوة، هى رسالة أقوى من السيف، فحين أراد نابليون أن يجور على المحاماة قال: «طالما السيف إلى جانبى، فسيكون ضمن سلطانى قطع لسان كل محامٍ يتجرأ على استخدامه ضد الحكومة»، وقد علق المؤرخون فيما بعد على ذلك بقولهم: «لقد برهن الزمن أن لسان المحامى كان أكثر صلابة من سيف الجنرال»، هكذا هى المحاماة، وهكذا هى فروسية المحامين.