جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

رجائى عطية وحكاياته بين الحقيقة والخيال

 

هذه معركة ما كنت أحب أن أكون فيها، وأقصد معركة نقابة المحامين الدائرة الآن بين الأستاذين الفاضلين الكبيرين رجائى عطية وسامح عاشور، وكلاهما محل تقديرى لا شك فى ذلك، وقد آثرت أن أنسحب من التفاعل مع الأحداث التى تمر بها نقابة المحامين منذ فترة حينما رأيت أن التلاسن فيها لا يليق بالكبار، فكبار نقابة المحامين منذ تأسيسها وضعوا لنا أعرافًا نقابية رفيعة القيمة، إلا أننى رأيت هذه الأعراف وهى تُداس بالأقدام منذ سنوات.

أما عن الخلاف الدائر حاليًا، فهو بين الأستاذ رجائى عطية، نقيب المحامين الحالى من ناحية، وهو محام صاحب مكانة مهنية متميزة، والأستاذ سامح عاشور، نقيب المحامين السابق من ناحية أخرى، وهو صاحب مكانة نقابية وسياسية كبيرة، ومع أمنياتى للأستاذ رجائى عطية بالتوفيق فى إدارة النقابة وتحقيق ما وعد به المحامين أثناء الجولة الانتخابية، إلا أننى وجدته يستدعى الماضى ليجعله طرفًا فى معركته مع الأستاذ سامح عاشور، وأصدقكم القول إننى أحب الأستاذين، فبينى وبين الأستاذ رجائى صلات قوية وأنا أحبه وأعتبره قيمة كبيرة، إلا أننى أحب الحق أكثر، وأعرف أن للأستاذ رجائى عاطفة جياشة، ومشاعر متقدة، وأصحاب العواطف قد تغلب عليهم عاطفتهم فتنسيهم ما لا ينبغى أن ينساه أحد، لذلك كتب على صفحته فى الفيسبوك منذ أيام خاطرة يستدعى فيها الماضى القريب، ليحط من شأن منافسه السابق الأستاذ سامح عاشور، فخلط بين الأحداث، وأدخل الحابل فى النابل، وقد لا يعنينى خلطه ولا حابله ولا نابله، فكلامه هو بضاعته وهو المسئول عنه، لولا أنه أدخلنى فى خاطرته ونسب إلىّ أمرًا غير صحيح، والغريب أنه استشهد بأحد كتبى وهو كتاب «قلب الإخوان» وكتب رقم الصفحة التى يستشهد بها.

قال الأستاذ الفاضل رجائى عطية: «فى كتاب قلب الإخوان روى ثروت الخرباوى صـ٨٣ ذهابه وعاشور لسجن طرة والاتفاق مع مختار نوح لدعم الإخوان لعاشور ٢٠٠١»!!!! وعلامات التعجب هذه من عندى، لأن هذه القصة لم تحدث على الإطلاق ولم أكتبها فى كتابى، ولا يوجد هذا الكلام بالصفحة التى أشار إليها ولا فى أى صفحة أخرى، فمن أين أتى بها الأستاذ رجائى؟!! جاء بها من عاطفته الجياشة، ومشاعره المتقدة، أو خياله الذى خلط الأمر عليه، ألم أقل لكم إن العاطفة تُنْسى ما وقر فى العقل، هذه القصة من وحى العاطفة، لا من وحى الحقيقة، بل إنه بقصته هذه قَلَبَ الآية تمامًا، والعرب يقولون إن القلب قُلَّبْ، أى أنه سريع التقلب، وطالما أن الأستاذ رجائى كتب أمرًا نسيه تمامًا فخلط بين تأييد الإخوان له وعدم تأييدهم للأستاذ سامح عاشور، بل ومحاربتهم له، فوضع الندى فى موضع السيف، وبما أنه ذكر اسمى وهو يستدعى التاريخ، لذلك يجب أن أذكر هذا التاريخ، علمًا بأننى كتبته أكثر من مرة، ورويت تفاصيله فى كتاب قلب الإخوان، وقلته فى حلقات تليفزيونية كثيرة.

كان القضاء عام ١٩٩٦ قد أصدر حكمًا بفرض الحراسة على نقابة المحامين عندما سيطر عليها الإخوان، وكانت هذه أول مرة فى تاريخ النقابات المهنية يتم فيها فرض حراسة على نقابة مهنية، وعاصر ذلك أيضًا فرض الحراسة القضائية على نقابة المهندسين التى كان الإخوان أيضًا يسيطرون عليها، وبدأ الإخوان يفكرون فى كيفية إنهاء الحراسة، وكانت الفكرة التى انتهوا إليها هى الاقتراب بأى شكل من دوائر صنع القرار فى الدولة، خاصة أن تاريخ فرض الحراسة كان معاصرًا للقضايا الجنائية التى تم تقديم قادة الإخوان فيها إلى القضاء العسكرى بتهمة تشكيل وإدارة تنظيم سرى، الإرهاب من وسائله، ولأن الإخوان استشعروا الخطر، لذلك حاولوا التقرب عن طريق وسطاء للسيد عمر سليمان، مدير المخابرات، وقد رويت قبل ذلك عن لقاء تم فى هذا الخصوص بين سليم العوا وعمر سليمان، إلا أنه لم يسفر عن شىء يفيد الإخوان، وعندما فشلت المحاولات القانونية الأولى فى إنهاء الحراسة على نقابة المحامين، بدأ مختار نوح الذى كان وقتها يدير ملف الإخوان المحامين فى التفكير فى إقامة صلات مع الأستاذ رجائى عطية، بحسب أنه كان مقربًا من الرئيس الراحل حسنى مبارك، لم يكن أمام الإخوان إلا هذا، خاصة أن النقيب أحمد الخواجة كان قد توفى إلى رحمة الله، وهو الذى كان بيده حل هذه العقدة، وظن مختار نوح أن الأستاذ رجائى بما له من صلات يستطيع أن يفك عقدة الحراسة ويتعاون مع الإخوان، خاصة أن الذى قدمه لمختار هو الأستاذ بهاء عبدالرحمن المحامى، وهو من رموز الإخوان بالجيزة، وكانت تربطه روابط عمل قوية بالأستاذ رجائى.

وبالفعل تم اللقاء، ووعد الأستاذ رجائى قيادات الإخوان بالسعى لرفع الحراسة على نقابة المحامين فى مقابل أن يترشح هو على موقع نقيب المحامين، وأن يؤيده الإخوان فى معركته، وبدأنا فى الحديث عن القائمة الإخوانية التى ستخوض معه الانتخابات، كنا قد دخلنا إلى نهايات عام ١٩٩٧، وفيها تقابل الأستاذ رجائى مع الرئيس مبارك لينهى إليه اتفاقه مع الإخوان بشأن تأييدهم له، ووافق مبارك على الاتفاق بشرط ألا تزيد قائمة الإخوان على ستة أفراد، وبعد أن خرج الأستاذ رجائى من مقابلة الرئيس تحدث مباشرة مع مختار نوح الذى كنت أجلس معه حينها، وأنهى إلينا ما تم الاتفاق عليه، وأخبرنا بأن الرئيس أحاله ليوسف والى، لكى يكون مشرفًا على تنفيذ الاتفاق.

وعقب ذلك جلسنا- مختار نوح وأنا وآخرون- فى مكتبه مع المرشد مصطفى مشهور، ونائبه مأمون الهضيبى، ونقلنا إليهما ما تم وتفاصيل لقاء حسنى مبارك برجائى عطية، وبارك المرشد هذا الاتفاق، ثم قمنا بالاتصال بالأستاذ رجائى لنخبره بمباركة المرشد، وتقابلنا مع الأستاذ رجائى فى مكتبه، ودار بيننا هذا الحوار الذى سجلته فى كتاب قلب الإخوان صـ٧٥ وما بعدها من الطبعة الجديدة: «وكان التحالف بيننا على أن نرفع فيه شعار (المشاركة لا المغالبة)، لا ريب أن الأستاذ رجائى أبدى فرحته بقرار الإخوان.. وأظن أنه أضمر فى مكنون نفسه دهشته حين قال له خالد بدوى وهو يطرق إلى الأرض: وما هو الضمان الذى ستقدمه لنا يا أستاذنا.. كيف نضمن أنه لن يتم القبض علينا وحبسنا بعد انتهاء الحراسة؟.

نظر إليه رجائى شذرًا وهو يقول: ضمان! أى ضمان! ثم استرسل فى لهجة حائرة: هل تريد أن أكتب لك شيكًا مثلًا!! استمر خالد فى إطراقه للأرض، وحينها قال أحمد ربيع: بالطبع لا.. ولكننا نريد أن نُقسم معًا إن تم القبض علينا أو على أحدنا قبل الانتخابات أن تعلن انسحابك من هذه الانتخابات.. وبعد كلمات أحمد ربيع وضعنا أيدينا على يد الأستاذ رجائى الذى أقسم بما طلبناه به، ثم قال خالد بدوى بعد القسم: (الله على ما نقول وكيل)، فردد الجميع خلفه: (الله على ما نقول وكيل)».

وبناءً على هذا الاتفاق تم عمل مؤتمر كبير فى فندق هيلتون رمسيس، حيث تم حجز إحدى القاعات الكبرى فيه بناءً على تعليمات السيد كمال الشاذلى، وحضر فى هذا المؤتمر أكثر من ألف محامٍ، ولذلك أطلقنا عليه المؤتمر الألفى، حيث جلس مختار نوح على المنصة، ومعه الأستاذ رجائى عطية وبعض قيادات الحزب الوطنى، وتحدث مختار نوح ورفع يومها شعار «المشاركة لا المغالبة»، الأمر الذى كان الأستاذ رجائى قد اتفق فيه مع الرئيس الراحل مبارك، إلا أنه لم يرد فى ذهن أحد أن هذا المؤتمر سيخيف قيادات الحزب الوطنى، فقدرة الإخوان على الحشد وتجميع تلك الأعداد من المحامين أخافت الدولة، وظهر للحزب الوطنى أن مختار نوح له شعبية بين المحامين وقدرة على التكتيك والإدارة، لذلك كان الاتجاه هو تنحية مختار من إدارة هذا الملف واستحضار آخر، ولن يتم هذا إلا بالقبض على مختار نوح وخالد بدوى، ووضع محمد طوسون، ضابط المباحث السابق ومسئول الإخوان فى المنيا بديلًا لمختار، على أن يستمر الاتفاق قائمًا بعد استبعاد مختار وحبسه، الأمر الذى تم فى قضية النقابات المهنية التى تم القبض فيها على نوح ومعه مجموعة من القيادات المهنية للإخوان وتقديمهم للمحاكمة العسكرية، ولم يكن أمامى أنا وقليل من المحامين الإخوان، إلا أن نذهب للأستاذ رجائى لكى يقوم بتنفيذ اتفاقه والعمل على الإفراج عن نوح، وقلت له فى مكتبه فى حضور قيادات إخوانية من المحامين، منهم الأستاذ أحمد ربيع غزالى، الذى ترك الإخوان فيما بعد، والأستاذ جمال برعى، مسئول الإخوان المحامين فى بنى سويف: إذا لم تنجح فى الإفراج عن نوح وخالد بدوى يجب أن تفى بوعدك وتنسحب من انتخابات نقابة المحامين.

أقسم الأستاذ رجائى على أنه سينسحب فى حال فشله، ومرت الأيام وصدر الحكم بحبس نوح وخالد بدوى ثلاث سنوات، ولم يفِ الأستاذ رجائى بوعده، آنذاك كان الأستاذ سامح عاشور قد حسم أمره على أن يخوض انتخابات النقابة على مقعد النقيب، فذهبت للأستاذ رجائى مرة أخرى ومعى أحمد ربيع وجمال برعى وقلنا له: إن الله يقول «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» وعقدك الذى أقسمت عليه هو الانسحاب من الانتخابات إذا ما تم حبس نوح وخالد، وها هما فى السجن، فقال الأستاذ رجائى: لقد كنت أهدد الحكومة بهذا، ولكننى لم أكن جادًا فى مسألة الانسحاب!! فقلت له: إذن هذا فراق بينى وبينك.

بعدها علمنا أن رجائى عطية تواصل مع مصطفى مشهور، مرشد الإخوان، فى وجود محمد طوسون، وأنهما اتفقا على استمرار تأييد الإخوان له، وأن كل قوة الإخوان ستكون مساندة له فى الانتخابات، أما أنا فقد وقفت الموقف الذى رأيته صحيحًا، قررت أنا ومعى مجموعة قليلة من المحامين الإخوان- تركوا الإخوان كلهم بعد ذلك- أن نقف ضد رجائى عطية باعتباره قد نكل عن تنفيذ وعده، وأن نقف مع سامح عاشور، فكان المحامون الإخوان بتنظيمهم، بقياداتهم، بدعاياتهم، بأفراد التنظيم من خارج المحامين، سواء كانوا أطباء أو مهندسين أو معلمين أو طلابًا، بقضهم وقضيضهم مع رجائى عطية، بلا مواربة، حيث كان الأمر معروضًا على شاشات الرأى العام كله، وأنا ومعى أحد عشر نفرًا لا نملك شيئًا إلا اتخاذ القرار الذى رأينا أنه هو الصحيح، وقفنا ضد رجائى وضد قائمة الإخوان، ووصل الأمر إلى حد أن أصدر المرشد مصطفى مشهور قرارًا بمنعى من مغادرة بيتى لحين انتهاء الانتخابات حتى لا أؤثر فى نتيجتها، وكان سليم العوا قد كتب مقالًا كبيرًا فى جريدة «الأهرام» بعد الانتخابات روى فيه هذا المنع الغريب من مغادرة بيتى.

نأتى إلى الرواية التى رواها الأستاذ الفاضل رجائى، من أننى اصطحبت الأستاذ سامح عاشور لسجن طرة لكى يصدر مختار قرارًا بتأييد الإخوان لسامح، الحقيقة التى نسيها الأستاذ رجائى هو أن هذه الزيارة كانت قد تمت بالفعل، ولكن بعد الانتخابات وفوز سامح على رجائى، وكان مختار يتعرض وقتها لمضايقات فى السجن، وكنت وقتها قد تركت الإخوان إلى غير رجعة، ولكننى ذهبت إلى سامح عاشور بحسب أنه أصبح نقيبًا للمحامين، وطلبت منه التدخل لإنهاء تلك المضايقات، خاصة أن مختار وسامح كانا زملاء منذ أن التحقا بحقوق الإسكندرية، وظلت علاقتهما قائمة فى حقوق القاهرة وفى أروقة نقابة المحامين، فتدخل الأستاذ سامح بالفعل، وقد رويت هذه القصة فى كتابى قلب الإخوان صـ ١٤٨ وما بعدها من الطبعة الجديدة، وكان الذى ذهب مع سامح النقيب هو الصديق عاطف عواد، المحامى رفيق الكفاح فى تلك القصة كلها، ولم أكن أنا، وكانت المقابلة حتى يطمأن النقيب أن المعوقات والمضايقات التى كانت تقابل مختار قد زالت، أما أنا فلم أذهب معهما، ولم يكن موضوعها تأييد الإخوان لسامح، لأن سامح كان قد أصبح نقيبًا بالفعل.