جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

كتائب الحنجورى

كان الكاتب الكبير محمود السعدنى عبقريًا فى نحت المصطلحات الجديدة، وكان جزءًا من هذه العبقرية أن يجمع المصطلح الذى ينحته بين الفصحى والعامية، وأن يكون اللفظ توصيفًا دقيقًا لحالة واقعية يعايشها الناس، لكنهم يعجزون عن وصفها.. أو لا يجدون لفظًا مناسبًا لوصفها.

من أشهر هذه المصطلحات مصطلح «الحنجورى»، وهو كما نرى مشتق من «الحنجرة» التى هى مصدر الصوت فى الإنسان، وهو كان يقصد به فصيلًا من السياسيين أو من يدعون النضال، حرمهم الله من نعمة العقل والتفكير فلا يكون أمامهم سوى استخدام حناجرهم فى الصراخ أو الهتاف، أو ترديد شعارات لا يفهمون معناها، ولا يعرفون كيف يمكن تحويلها إلى واقع على الأرض، والمعنى أنهم يفكرون بحناجرهم لا بعقولهم، أو أنهم لا يملكون عقولًا يفكرون بها من الأساس.

ظاهرة «الحنجورى» قد تكون لها أسباب متعددة، منها افتقاد القدرة على استخدام العقل وتعويض ذلك باستخدام الحنجرة، ومنها رغبة الشخص فى لفت الانتباه، ومنها الرغبة فى ابتزاز الدولة مثلًا للحصول على منفعة ما أو وضع سياسى ما، والحقيقة أن الأستاذ السعدنى حين صك المصطلح كان يقصد فرقًا سياسية بعينها من التى تعودت على ترديد الشعارات الكبيرة لمصالح صغيرة، أو لمجاراة بعض الحكام العرب والتمول منهم مثلًا.

والحقيقة أن المناخ وقتها كان يسمح بهذا، فالناس كانوا قريبى عهد بفترة المد القومى، وهى فترة كانت تسمح باستخدام الشعارات الزاعقة فى وسائل الإعلام التابعة لها بهدف الدعاية السياسية، والعالم كان ينقسم لمعسكرين، وبعض «الحنجوريين» العرب قد تربوا فى طفولتهم على هذه الطريقة فى الأداء، وبالتالى فإنك يمكن أن تلتمس العذر لهم حتى لو ارتزق بعضهم من كونه «حنجوريًا».. لكن الحقيقة أن الوضع قد اختلف تمامًا فى عام ٢٠٢١، ومفهوم السياسة فى العالم كله اختلف، وقرارات الدول بإعلان الحرب أو بعدم إعلانها اختلفت تمامًا عن الماضى.. وعلى المستوى المصرى اختلف الواقع تمامًا بعد ٣٠ يونيو وما تلاها، ومن ثم فإن ظهور شخص حنجورى ما على الساحة يبدو أقرب لفاصل كوميدى «هذا إذا افترضنا أنه لا يعمل لحساب الإرهاب وجماعته».. يبدو هذا الشخص بائسًا منتميًا إلى الماضى، أو كأنه يحترف مهنة انقرضت، مثل المونولوجست الذى كان يُلقى النكات على الناس فى الأفراح مثلًا وصار جزءًا من الماضى مع انتشار «الكوميكس» ووسائل السخرية الأحدث.

الحنجورى شخص بائس كل ما يشغله أن يسمع الناس صوته، رغم أن صوته ليس من عقله، أو أنه لا عقل له من الأساس.