جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

النسخ هو تحريف صريح للقرآن

أثار المقال الفائت عن أنه «لا نسخ فى القرآن» قدرًا من الجدل، ومن المنطقى أن يرفض منطقه من تعوَّد على النقل من الأولين دون إعمال العقل والموازنة والترجيح، وهذه هى آفة العقلية العربية، فهى عقلية نقلية بامتياز، ومن الغريب أن من يقولون إن هناك آيات فى القرآن تنسخ آيات أخرى أى تلغيها وتنهى وجودها اعتمد على الآية القرآنية «ما ننسخ من آية أو ننسها» مع أن تلك الآية القرآنية كانت تخاطب اليهود، ثم إن كلمات «آية أو آيات أو آياتى» لم تكن مرتبطة فى سياق ورودها بالقرآن منصرفًا إلا للآيات الكونية أو المعجزات التى أيد الله بها رسله، وحين أراد الله أن يربط كلمة «آية» بحسب أن من معانيها «الوحدة الواحدة من القرآن» ربطها بالقرآن مباشرة بشكل متلازم فقال: «طس* تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ»، وذلك حتى لا ينصرف الذهن للآيات الكونية والمعجزات، فنعرف بذلك أن معنى كلمة آية فى أصلها هى «علامة» أو «أمارة»، ولا يجوز أن نفسرها بأنها وحدة قولية من القرآن إلا إذا ربطها الله بالقرآن فى سياق تلك الوحدة بأن يقول مثلًا: ما ننسخ من آية من آيات القرآن أو ننسها، ومع ذلك فسّر العقل العربى كلمة «آية» فى آية النسخ على أنها آية قرآنية وليست آية كونية.
وعود على بدء نتذكر معكم أننا فى مقالنا السابق قمنا بالرد على فكرة النسخ، تلك الفكرة الغريبة التى لا تستقيم مع القرآن المحكم المبين، وقد فندناها وشرحنا فى تفنيدنا مثلًا لها متعلقًا بآية «الوصية» التى قال السطحيون الفارغون عنها إن الله نسخها بآيات المواريث، ثم بحديثَى «لا وصية لوارث» و«لا وصية إلا فى حدود الثلث»!، وقد استنكرت معى يا صديقى تلك الفكرة العجيبة التى تقول إن الله أنزل تشريعًا، ثم عنَّ له بعد ذلك أن يُجرى تعديلًا تشريعيًا فأصدر تشريعًا ناسخًا للتشريع الأول، وكأن الله شكّل لجنة إلهية لتدرس أحوال البشر ثم وضعت هذه اللجنة تشريعًا رأت أنه يناسب أحوال الناس، ومع التجربة العملية ثبت عدم نجاح هذا التشريع! فقرر الله أن يتدخل ليحسم الأمر فوضع تشريعًا نهائيًا نسخ وألغى به التشريع الأول! وقد رأينا فساد هذا الرأى وسطحية الأفهام التى تطرحه، بل عبثية تصورهم عن الله الحكيم الخبير، ولك أن تعلم يا صديقى أن الله سبحانه ذكر بالويل هؤلاء المدعين بالنسخ فى القرآن الكريم، هل تعرف ماذا قال عنهم؟
قبل آية الوصية قال الله سبحانه قولًا ينبغى أن نتفكر فيه ونتدبره، هو «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا* أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، الله يا صديقى العزيز لم يقل إن الذين يُخفون ما أنزل الله- خذ بالك- فالإخفاء هو الزعم بعدم وجود الآية أصلًا، ولكن الكتم هو الإقرار بوجودها مع جعلها لا تنطق، أى غير قابلة للتنفيذ، وهذا هو النسخ الذى لا يُنكر وجود الآية ولكنه يكتم الآية، ويقول إنها فقدت أثرها بآية أخرى أو بحديث منسوب للنبى، صلى الله عليه وسلم، إى وربى، هذه الآية خاصة بأولئك الذين يكتمون ما أنزل الله، وهى من سياقها لا تنطبق إلا على من ابتدعوا القول بالنسخ، فالناسخ هو كاتم، كتم آية الوصية، وكتم آيات الرحمة، وهلم جرًا.
ولك يا صديقى أن تعلم أن حديثهم عن آيات القتال التى يقولون إنها نسخت آيات الرحمة والحرية والسلام هو أبشع ما قاله مسلم عن دينه، فآية «لا إكراه فى الدين» جاءت فى سورة «البقرة» المدنية، أى فى الوقت الذى تشكلت فيه الدولة المسلمة الوليدة وبدأت فى مواجهة الغزوات الكفرية التى شنتها قريش عليها، وآية «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين»، جاءت أيضًا فى سورة «البقرة»، ولا يعقل يا صديقى ألا يحب الله الاعتداء فترة من الزمن ثم يحبه فى فترة أخرى! سبحانه يُغيّر ولا يتغير، أما كون الرسول لم يكن غازيًا فالمسألة جد بديهية، فالغزو لغة هو مصدر غَزَا، وأَغَارَ عَلَى العَدُوِّ غَزْوًا: أى سار إلى محاربته وقتاله فى عقر دياره، وفى تلك الحروب التى قال الله عنها إنها «يوم» مثل قوله «ويوم حنين» وقوله «يوم التقى الجمعان»، كان الكفار يجمعون جيشهم وعدتهم ويذهبون إلى المدينة لمحاربة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، حدث ذلك فى «بدر» و«أحد» و«الخندق»، أما «حنين» فقد كانت بعد فتح مكة، إذ بعد الفتح تحركت بعض القبائل ضد الإسلام والمسلمين، وكان على رأس هذه القبائل «هوازن» و«ثقيف»، حيث توحدت جميعًا وجمعت جيشًا كبيرًا رهيبًا من أجل استئصال شأفة الإسلام والقضاء على المسلمين، وسار ذلك الجيش الغازى حتى وصل إلى مكان يبعد مسيرة يوم عن مكة، فأعد لهم رسول الله جيشًا من المسلمين، فوقف الجيش المسلم فى هذا اليوم موقف المدافع عن الإسلام والمسلمين ضد جيش جاء معتديًا وغازيًا، أما «مؤتة» و«تبوك» فقد كان الرسول، عليه الصلاة والسلام، يدافع فيهما عن الجزيرة العربية كلها ضد اعتداءات جيوش الروم عليها، وفى كل هذه الحروب كان القرآن يتنزل على الرسول، صلى الله عليه وسلم، ليرسم حدود المسلمين فى الحرب، فقال لهم: «وقاتلوا فى سبيل الله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين»، وعندما هجم الكفار على المسلمين فى المدينة غزاة فى واقعة «بدر»، أنزل الله على الرسول، صلى الله عليه وسلم، «يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال»، ومناسبة الآية تفصح عن أن بعض المؤمنين قد انتابهم الخوف من مواجهة جيش الكفار الذى كان أكثر منهم عددًا، بل يتفوق عليهم بمقدار ثلاثة أضعاف، فضلًا عن تفوق الكفار فى الأسلحة والعتاد، لذلك طلب الله من النبى أن يملأ نفوس المسلمين بالحماس لقتال المعتدين والدفاع عن أنفسهم، وفى ذات الوقت قال الله للمسلمين مطمئنًا لهم: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا».
وكل آيات القتال التى وردت فى سور «البقرة» و«آل عمران» و«النساء» و«الأنفال» و«التوبة» و«محمد»، كلها مرتبطة بغزوات ضد المسلمين كان الرسول والمسلمون فيها فى موضع الدفاع لا فى موضع الاعتداء، أى أنها من القصص القرآنى مثلها مثل قصص باقى الأنبياء التى لا يؤخذ منها أى حكم تشريعى، ولكن نستفيد منها فى معرفة كيف تعامل أقوام الأنبياء معهم وكيف حاربوهم، ثم كيف استمر الأنبياء فى دعوتهم ولم يخضعوا أو يتراجعوا فى تبليغ رسالات ربهم، وغير ذلك من العظات والعبر.
ولكن أنصار النسخ من أصحاب الأفهام البليدة والنفوس المستغرقة فى الشر أخذوا هذه الآيات ووضعوها فى غير موضعها، وإذا بالواحد منهم يتشدق وكأنه علّامة عصره وأوانه، ووحيد دهره وزمانه، قائلًا: العبرة يا أخى بعموم اللفظ لا بخصوص السبب! وبذلك تحوّل الإسلام عندهم إلى دين السيف والقتال، والغزو والسلب والنهب، وعندما أقاموا جماعات حركية لأنفسهم جعلوا من السيف شعارًا لهم، ومن بطون الكتب أخرجوا لنا أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، لا يمكن أبدًا أن تكون من كلمات الرسول، صلى الله عليه وسلم، مثل حديث «بُعثت بالسيف بين يدى الساعة وجعل رزقى تحت ظل سيفى» فأصبح النبى قاطع طريق، ارتبط رزقه بالرمح والسيف! وإذا بهم ينسبون للنبى قولًا منكرًا هو : «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم»! لا مشكلة لدى هؤلاء إن قال الله سبحانه «لا إكراه فى الدين» ثم يخالف الرسول تلك القاعدة الربانية ويقول إن الله الذى قال لا إكراه فى الدين قد أمره أن يُكره الناس فى الدين بالسيف!
ولكن هل عرفت يا صديقى كل كوارث أهل النسخ؟ قد أصدمك لو قلت لك إنهم بالغوا بعض الشىء، وزعموا أن الله أنزل آيات قرآنية، ثم رأى أن هذه الآيات قد لا تكون مناسبة لسبب أو لآخر فقام بإلغاء هذه الآيات بلفظها، ثم أبقى على حكمها، وهذا من الأشياء الطريفة! التشريع موجود وغير موجود! أوجده الله أولًا لفظًا وحكمًا، ثم تنازل عن الألفاظ إلا أنه أبقى الحكم! ومن باب تأكيد إلغاء الألفاظ أرسل الله بعض الحشرات لتأكل الحروف التى كتب المسلمون بها هذه الآيات فى صحفهم، وفى أحوال أخرى سلط الله على الصحف التى كتبوا فيها تلك الآيات بعض الماعز لتأكل هذه الصحف، وبذلك يستريح الجميع وتختفى الآيات! ولكن من قال ذلك؟! جاء ذلك يا سيدى فى كتب البخارى ومسلم وابن حنبل ومالك وغيرهم! بل من خلال بعض ما جاء فى هذا الشأن نسخت الآيات المأكولة من الماعز آيات باقية فى القرآن، هكذا قال علماء الحديث وأهل النسخ، انظر كيف استهانوا بكتاب الله، سبحانك ربى، تلك هى عقولهم، وهذا هو مستواهم فى الإدراك، ولكن ما قصة الآيات التى أكلتها الماعز؟! هذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.