جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ريجينى.. أكذوبة الضابط الكينى

أكذوبة، ظلت متداولة طوال سنتين تقريبًا، بدّدها نورالدين حاجى، رئيس النيابات العامة فى كينيا، بنفيه ما أُثير عن سماع ضابط شرطة كينى، فى يوليو ٢٠١٧، لرواية من ضابط شرطة مصرى، خلال مؤتمر أمنى انعقد بالعاصمة الكينية نيروبى، تضمنت ادعاءً بوجود دور للأخير فى خطف طالب الدكتوراه الإيطالى جوليو ريجينى والاعتداء عليه.

هذا النفى، جاء ردًا على طلب المساعدة القضائية، الذى أرسلته النيابة المصرية إلى السلطات القضائية الكينية. وفى حضور السفير بدر عبدالعاطى، مساعد وزير الخارجية للشئون الأوروبية، استقبل المستشار حمادة الصاوى، النائب العام، فى مكتبه، جيامباولو كانتينى، السفير الإيطالى لدى القاهرة، وطالبه بتسليم هذا الرد، أو ذلك النفى، إلى المحكمة، التى تنظر القضية فى إيطاليا، مع أوراق أخرى، تسلم السفير الإيطالى نسختين منها، إحداهما بالعربية والأخرى بالإيطالية، تضمنت تفنيدًا مفصَّلًا لكل ما أُثير حولَ الضباط المصريين المشتبه بهم فى الواقعة. 

جوليو ريجينى طالب دكتوراه إيطالى، بجامعة «كامبريدج»، لقى مصرعه بالقاهرة، فى يناير ٢٠١٦. ومن وقتها، ظلت وسائل إعلام أجنبية، وعربية، وجهات تحت مستوى الشبهات، تطلق وتتداول الأكاذيب والشائعات، بينما كانت السلطات المصرية تتعاون مع نظيرتها الإيطالية، للكشف عن الحقيقة، وفك ألغاز تلك القضية.

الفاعل لا يزال مجهولًا. وفى بيان مشترك مع «نيابة الجمهورية بروما»، أعلنت النيابة العامة المصرية، نهاية نوفمبر الماضى، عن إغلاق التحقيقات فى القضية، مؤقتًا، مع تكليف جهات البحث باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة للوصول إلى مرتكب الجريمة. بينما أعربت النيابة الإيطالية، عن اعتزامها إنهاء التحقيقات بالاشتباه فى ٥ أفراد منتمين لأجهزة أمنية، بتصرفات فردية منهم، وهو ما تحفظت عليه النيابة المصرية وأكدت أن هذا الاشتباه غير مبنى على أدلة.

الاشتباه، غير المبنى على أدلة، استند إلى أكاذيب وشائعات، من بينها أكذوبة ضابط الشرطة الكينى، التى اختلقتها جريدة «لا ريبوبليكا» الإيطالية، حين زعمت، فى ٥ مايو ٢٠١٩، بأن ذلك الضابط، ذهب متطوعًا إلى النيابة الإيطالية للإدلاء بشهادته بعد أن سمع حوارًا بين ضابط الشرطة المصرى وآخر، خلال المؤتمر الأمنى. وإكمالًا للعبث، قالت الجريدة إن الشاهد المزعوم، تعرَّف على اسم الضابط المصرى، لأن الأخير أعطاه الكارت الشخصى الخاص به! 

لاحقًا، تحديدًا فى ١٢ ديسمبر ٢٠١٩، نسفت الجريدة نفسها، فى تقرير جديد، ما جاء فى التقرير السابق، إذ ذكرت أن المدعى العام الإيطالى، ذهب إلى نيروبى، واستمع إلى شهادة الضابط الكينى، وطالب السلطات المعنية هناك، بالتحقق من تلك الشهادة وموثوقية الشاهد نفسه.

الضابط الكينى، إذن، ذهب متطوعًا إلى النيابة الإيطالية، فى روما، وفقًا للتقرير الأول. وذهب إليه المدعى العام الإيطالى، فى نيروبى، بحسب التقرير الثانى. وفى تقرير ثالث نشرته جريدة الـ«تايمز» البريطانية، فى ١٩ ديسمبر ٢٠١٩، فوجئنا بأنه ذهب مع «شهود عيان» آخرين، إلى أسرة ريجينى. وعليه، لن تكون مخطئًا، لو تشككت فى سلامة القوى العقلية لمن قاموا ببناء قصص خبرية، أو حاولوا فك لغز قضية جنائية، استنادًا إلى أكذوبة، ظهرت بعد سنتين من حدوثها المزعوم، وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من وقوع الحادث! 

يمكنك أن تتشكك، أيضًا، فى صحة ما ذكرته الجريدة الإيطالية، فى تقريرها الثانى، بشأن مطالبة المدعى العام الإيطالى للسلطات الكينية المعنية بالتحقق من وقائع الشهادة المزعومة، وموثوقية الشاهد، لأنه لو فعل، لكان الرد قد وصله، منذ سنة على الأقل، وما احتاج النائب العام المصرى إلى تسليمه للسفير الإيطالى لدى القاهرة. وسبب قطعنا بذلك، هو أن نورالدين حاجى، النائب العام الكينى، أو رئيس النيابات العامة بجمهورية كينيا، مشهود له بالنزاهة والكفاءة.

قبل توليه رئاسة النيابات العامة، فى ٢٨ مارس ٢٠١٨، كان «حاجى» نائبًا لمدير جهاز الأمن الوطنى الكينى. وفى غضون بضعة أشهر، من رئاسته لأعلى سلطة تحقيق فى البلاد، استحوذ على اهتمام وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، بسبب مكافحته للفساد، وقراراته الحاسمة والصادمة، التى طالت وزراء وحكام مقاطعات ورجال أعمال. ويمكنك أن تضيف إلى ذلك أنه ينتمى لواحدة من أكثر العائلات الكينية نفوذًا، وأن والده محمد يوسف حاجى كان وزيرًا للدفاع منذ ٨ يناير ٢٠٠٨ إلى ٢٦ أبريل ٢٠١٣، وظل حتى وفاته، منتصف فبراير الماضى، عضوًا فى مجلس الشيوخ الكينى.

ككثيرين، قد يدهشك اهتمام إيطاليا بحادث ريجينى، مقابل تجاهلها لحوادث كثيرة شبيهة، راح ضحيتها إيطاليون، أيضًا، فى دول العالم المختلفة، غير أن هذا الاهتمام، فى رأينا، هو الواجب، أو الأصل، بينما التجاهل أو الصمت، هو التقصير أو الاستثناء. فقط، نتمنى أن توجّه السلطات الإيطالية بعض جهود البحث عن القاتل، أو القتلة، إلى عواصم أخرى غير القاهرة.