جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

نكسة ٦٧.. الظاهرة خارج السياق

للحكم على أى ظاهرة لا بد من وضعها فى سياقها التاريخى، أى فى ارتباطها بما حولها، وما كان قبلها، وتطور الظاهرة وما آلت إليه. من دون وضع الحالة- أى حالة- فى سياقها فإننا نصبح أسرى الفهم المشوه غير الصحيح للمسألة، أيًا كانت تاريخية أو اجتماعية. 

فى الطب، على سبيل المثال، لا يمكن للطبيب العلامة أن يعطى علاجًا للكبد أو غيره دون النظر إلى علاقة الكبد بما حوله، وارتباطه بالوضع الصحى العام للشخص، وببقية أعضاء البدن، وتفاعلات ذلك الارتباط. وطالما تباينت المواقف من النكسة، واختلفت، بدءًا من الشماتة التى كان الشيخ الشعراوى أبرز نجومها حين صلى شكرًا للرب على هزيمة مصر، مرورًا بأولئك الذين «أرقهم الخوف من العدل» ومن انحياز الثورة للطبقات الفقيرة التى أرقها «الشوق إلى العدل»، وصولًا إلى أولئك الذين تناولوا النكسة بمعزل عن سياقها، وقالوا، وما زالوا، إن سببها الرئيسى انعدام الحريات العامة والديمقراطية فى تجربة الثورة. ولست فى معرض مناقشة من يسجدون شكرًا على هزيمة الوطن، ولا أولئك الذين يعتبرون أن الثراء الفاحش والفقر الفاحش أمر طبيعى لا يجوز أن تمتد إليه يد التغيير. يتبقى من يظنون أن غياب الديمقراطية وحكم الفرد سبب الهزيمة التى سميت تأدبًا نكسة، ولأولئك أقول إننى كنت وما زلت مع إشاعة الديمقراطية، وأعدها عاملًا مهمًا فى مواجهة كل الأزمات، لأن الشعب فى ظلها يصبح قادرًا على التعبير والابتكار والحركة والمواجهة، ولكنى للحكم على النكسة أرى ضرورة وضعها فى سياقها، أى فى إطار الهجمة على ثورة سعت إلى تحقيق الاستقلال وطرد الإنجليز باتفاقية الجلاء ١٩٥٤، وتحقيق الاستقلال الاقتصادى ببناء المصانع، وقرارات تمصير الشركات الأجنبية، وكسر احتكار السلاح عام ١٩٥٥، وبناء السد العالى، وتفكيك حلف بغداد الاستعمارى ١٩٥٨، وقرارات التأميم، ودعم الكفاح الفلسطينى المسلح، وثورة الجزائر، وإلهام ليبيا القضاء على القواعد العسكرية، ومساعدة اليمن فى الخروج من ظلمات العصور الوسطى، وإتاحة التعليم مجانًا لأوسع فئات الشعب، ونشر الثقافة المعادية للاستعمار والهيمنة. 

فى هذا السياق تحديدًا، وعلى ضوء هذا الدور كان لا بد من ضرب الثورة بعد أن مثلت تهديدًا مباشرًا للمصالح الاستعمارية، ومن هنا كانت نكسة أو ضربة ٦٧، من هنا وليس لغياب الديمقراطية فى التجربة! ويكفى التذكير بعشرات الحكام من العرب وغيرهم، ممن لم تعرف نظمهم حتى رائحة الديمقراطية، ومع ذلك ظلوا متربعين على عروشهم بطمأنينة عقودًا طويلة، ذلك أن الديمقراطية لم تقض مضجع الاستعمار قط، ولا بمليم، وعندما تمت إبادة الهنود الحمر لم يكن ذلك لغياب الديمقراطية لديهم! لكن لأنهم واجهوا عدوًا تصادف أنه تاريخيًا كان أكثر تفوقًا بكثير. 

ولم يكن غياب الديمقراطية أيضًا هو السبب الرئيسى فى تصفية تجربة محمد على باشا، أو هزيمة البطل أحمد عرابى، كما أن إشاعة الديمقراطية لم تنفع سلفاور الليندى بشىء عندما قررت أمريكا إزاحته عن الحكم وتعيين عميل لها ليحكم تشيلى. 

لا يمكننا إذن أن ننظر أو نفهم النكسة من دون وضعها فى سياق عدائها للاستعمار، الأمر الذى استحقت عليه العقاب. فى هذا السياق تصبح النكسة مشهدًا من تاريخ الصراع الوطنى المصرى من أجل الاستقلال والتطور ومن الطبيعى أن يحفل التاريخ بكبوات ونهوض، وقد تم ذلك بحرب الاستنزاف، التى كان من المستحيل من دونها الوصول إلى نصر أكتوبر. 

أخيرًا قد يجدر القول إن هناك هزائم تنطوى فى داخلها على عناصر الانتصار، كما أن هناك انتصارات تبطن فى داخلها عوامل الهزيمة.