جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

صافع ماكرون.. والمعارضة السوّية

 

يومان فقط، وعوقب صافع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، بالحبس لمدة ٤ أشهر مع النفاذ و١٤ شهرًا مع وقف التنفيذ، مع منعه من تولى أى وظيفة عامة، وعرفنا من بيان، أصدره المدعى العام، أن المُدان عمره ٢٨ سنة، وقال للمحققين إنه كان قريبًا من حركة «السترات الصفراء»، المعارضة لسياسات ماكرون، وتصرّف بالفطرة، دون تفكير. 

الحكم أصدرته محكمة مدينة فالنسيا الجنوبية الشرقية، وفقًا لنظام «المثول الفورى»، الذى يضمن تسريع إجراءات المحاكمة، ويتجاوز كثيرًا الحد الأدنى ويقل قليلًا عن الحد الأقصى، لجريمة الاعتداء على شخص يتولى سلطة عامة، اللذين حددتهما المادة R624-1 من قانون العقوبات الفرنسى: غرامة لا تتجاوز ٧٥٠ يورو، لو كان الاعتداء خفيفًا، والسجن لمدة ٣ سنوات وغرامة ٤٥ ألف يورو، لو فقد المعتدى عليه القدرة على العمل لمدة ثمانية أيام.

قيل إن الشاب له ميول يمينية، ومشترك فى مواقع إلكترونية لليمين المتطرف ومن المعجبين بتاريخ العصور الوسطى، وأبدت وسائل الإعلام الفرنسية، وغير الفرنسية، اهتمامًا كبيرًا بهتافه «مونتجوى.. سان دونى»، وهو هتاف للمعارك بدأ استخدامه فى عهد لويس السادس، ملك فرنسا منذ سنة ١١٠٨ حتى ١١٣٧، ويشير إلى القديس سانت دينيس، أو سان دونى حسب نطق الفرنسيين، الذى تحمل اسمه مدينة قريبة من العاصمة، وكان أسقفًا لباريس فى القرن الثالث، وتم إعدامه بقطع رأسه، وتقول الأسطورة إنه التقط رأسه وسار عدة أميال وهو يخطب!.

باستثناء سرعة إصدار الحكم، نرى أن الواقعة عادية: شخص ما، ارتكب جريمة وعوقب عنها بموجب قانون عقوبات بلده. وربما كان غير العادى، فقط، هو أن مارين لوبان، زعيمة حزب «التجمع الوطنى» اليمينى، نددت بما فعله الشاب وقالت إنه «غير مقبول على الإطلاق». وما قد يجعل ذلك غير عادى، هو أن لوبان أشرس معارضى ماكرون ونافسته فى انتخابات الرئاسة الماضية، وستنافسه فى الانتخابات المقبلة. والشىء غير العادى نفسه، فعله جان لوك ميلونشون، زعيم اليسار الراديكالى، غريم ماكرون اللدود، الذى استنكر الجريمة وأعرب عن تضامنه مع الرئيس. 

هذا عن المعارضين هناك، أما هنا، فنشطت غُدة «الهبد» لدى بعض المحسوبين على المعارضة، وانفجرت شلالات الكذب والتدليس، المعتادة، من الإخوان والمؤلفة جيوبهم، إذ أبدى أحدهم دهشته من أن الشاب «ما طلعش إخوان أو مرتبط بأى مؤامرة لزعزعة استقرار الدولة الفرنسية»، وزعم أنه «لو عمل نفس العملة مع عسكرى دورية كان خد نفس الحكم».

لأن الغرض مرض، تجاهل «غير المذكور» التركيز على هتاف الشاب ومحاولات ربطه باليمين المتطرف، وبحركة السترات الصفراء، كما تعامى عن وجود شاب آخر تم إلقاء القبض عليه، لمجرد تصويره الاعتداء، وعن قيام السلطات الفرنسية بمداهمة منزله، وادعائها أنها عثرت على أسلحة وكتاب كفاحى لأدولف هتلر وعلم الثورة الروسية. وربما كان الجهل هو سبب عدم معرفة «غير المذكور» بأن الشاب، الذى قام سنة ٢٠١٧ بصفع مانويل فالس، رئيس الوزراء الفرنسى آنذاك، عوقب بالحبس لمدة ٣ أشهر مع وقف التنفيذ.

استوقفنا، أيضًا، أن هشام شرابى، وجّه التحية «للقضاء الفرنسى المستقل»، فى حسابه على تويتر، عن «إخلاء سبيل الشاب الذى صفع ماكرون»، وأرجع القرار إلى أن الرئيس الفرنسى أخطأ أيضًا، لأنه «لم يراعى المسافة القانونية للتباعد الاجتماعى». وشرابى يصف نفسه بأنه «مؤسس حركة قضاة من أجل مصر، عضو جبهة الضمير»، و... و... معروف أنه كان من خلايا «الإخوان» النائمة، ثم استيقظ حين تولت الجماعة الحكم، وهرب إلى تركيا فور كنسها.

بعيدًا عن اختلاقه الحكم وتأليفه لأسبابه، كان غريبًا أن يسأل شرابى متابعيه: «تخيل ماذا كان سيفعل قضاء مصر فى متهم مصرى لو سب أمين شرطة؟!»، مع أن ذلك الإخوانى الكاذب لو عاد إلى قانون العقوبات المصرى، الذى ينبغى أن يكون قد حفظه عن ظهر قلب بحكم مهنته السابقة، لعرف أن المادة ١٣٦ تعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ستة شهور أو بغرامة لا تتجاوز مائتى جنيه، كل من تعدى على أحد الموظفين العموميين أو رجال الضبط أو أى إنسان مكلف بخدمة عمومية، أو قاومه بالقوة أو العنف أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها. أما لو حدث مع التعدى أو المقاومة ضرب أو نشأ عنهما جرح، فتكون العقوبة، طبقًا لنص المادة ١٣٧، الحبس مدة لا تزيد على سنتين أو غرامة لا تتجاوز مائتى جنيه. 

خلاصة ما سبق هو أن الواقعة عادية، أو أقل من عادية، وأن عقوبتها فى القانون المصرى تقل كثيرًا عنها فى القانون الفرنسى. ولو جاز أن نخرج منها بعبرة، ستكون أن المُعارضين الفرنسيين أسوياء، لا يبررون أو يستثمرون الجرائم، ولا يلتمسون الأعذار لمرتكبيها.