جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الطريق إلى 30 يونيو «2».. الإخوان وجماعة التوريث تنافسا على الرضا الأمريكى قبل 2011

مبارك وافق على التوريث فى مايو ٢٠١٠ وكان بذلك يضرب أساس شرعيته وسند بقائه 

وسائل إعلام رجال الأعمال بدأت بدور وطنى عظيم ثم تحولت لعامل هدم وابتزاز مع زيادة ضعف الدولة 

بعض الإعلاميين وجد فى السخرية من المسئولين وسيلة للظهور فى مظهر البطل الشعبى وتحقيق المزيد من الأرباح 

كانت السنوات من ٢٠٠٥ إلى ٢٠١١ حاسمة فى رسم ملامح الطريق إلى ٣٠ يونيو.. التى كانت وما زالت حركة إصلاحية لتصحيح مسار الدولة المصرية، التى اعترتها عوامل الضعف، والخمول، وسيطرت عليها الشيخوخة، وتقاعس رأس النظام السياسى فيها عن حسم سؤال مستقبل الدولة من بعده، مفضلًا أن يترك الأمور غائمة طوال السنوات الخمس قبل ثورة يناير، مع إطلاق تصريحات مطاطة عن وجود توريث.. وبالطبع فإن النظام ليس وراثيًا.. والوريث لم يكن سيتسلم البلد وفق إعلام وراثة شرعى.. لكن كانت هناك إجراءات أكيدة لنقل السلطة لنجل الرئيس الأصغر عبر انتخابات تعددية.. ولم يدرك مبارك أنه بإقدامه على التوريث ينهى مصدر شرعيته هو نفسه، حيث لم يكن يملك من أوراق الشرعية سوى دوره فى حرب أكتوبر وانتمائه للمؤسسة العسكرية التى تحملت مسئولية مصر منذ يوليو ١٩٥٢.. والحقيقة أن معلومات مؤكدة تحدثت عن موافقة مبارك على سيناريو التوريث فى مايو ٢٠١٠.. حيث كانت الخطة أن يعلن عدم ترشحه بانتهاء فترة ولايته مايو ٢٠١١، وقالت المعلومات إنه أبلغ المسئولين فى المملكة العربية السعودية بنيته لاعتبارات التحالف الاستراتيجى بين البلدين. 

 

 

 

وكانت التربة قد تم تمهيدها بالفعل.. خلال السنوات السابقة.. ليس فقط من خلال تأسيس أمانة السياسات وتعيين د. أحمد نظيف رئيسًا للوزراء كأول رئيس وزراء يأتى من خارج مؤسسات الدولة المصرية السياسية.. حيث كان سابقوه مثل عاطف صدقى وكمال الجنزورى قد عملوا داخل جهاز الدولة منذ الخمسينيات وتعرضوا لاختبارات وتدريبات مختلفة.. وهو ما لم يحدث مع د. نظيف الذى كان خبير اتصالات أكثر منه واحدًا من كوادر الدولة المصرية.. عبر التوريث عن نفسه بحكومة عرفت بحكومة رجال الأعمال، وبسياسات عرفت بأنها تنتمى لمدرسة الليبرالية المتوحشة.. وكان لافتًا أنه فى ظل وجود هذا العدد من أصحاب المليارات الذين تضاعفت ثرواتهم فى الفترة من ٢٠٠٥ إلى ٢٠١٠ أن تمر البلاد بأزمات معيشية مثل أزمة الخبز.. أو أزمة أنابيب البوتاجاز.. أو أزمة مياه الشرب فى بعض المحافظات.. وكان هذا يعكس ضعفًا فى الإدارة، وخللًا فى الأولويات، وعدم اهتمام بحياة المواطنين البسطاء.. ووفق كتابات صحفية متواترة كان الجيش المصرى يراقب الوضع.. ويعبر عن غضبه.. حيث عبر المشير طنطاوى وقتها عن رفض الجيش بيع بنك القاهرة.. والتساهل فى بيع أراضى الدولة والتفريط فيها.. وشاع عنه اتهامه وزراء نظيف بأنهم يريدون أن «يبيعوا البلد».. كان التمهيد للتوريث يتم عبر تصريحات بعض المشاهير مثلًا.. وكان منهم الفنان عادل إمام الذى أعلن عن تأييده جمال مبارك كمرشح لرئاسة مصر.. وكان منهم شيخ الأزهر د. سيد طنطاوى الذى أجاب عن سؤال وجه له فقال إن التوريث ليس حرامًا لو تم بانتخابات يرشح فيها جمال مبارك نفسه.. والحقيقة أن التوريث إن لم يكن يمثل نوعًا من الحرام الدينى فهو بكل تأكيد نوع من الحرام السياسى الذى كان سيؤدى لابتلاع البلد لحساب شلة عرفت بأنها «شلة جمال مبارك».. وإذا كان شيخ الأزهر السابق قد أفتى بأن التوريث ليس حرامًا.. فقد قال شيخ الأزهر الحالى د. أحمد الطيب رأيه بطريقة عملية وانضم إلى عضوية أمانة السياسات وإن كان قد استقال بعد اختياره شيخًا للأزهر.. بعد مناشدات له بالاستقالة باعتبار أن المشيخة أعلى من أى منصب حزبى. 

كانت شواهد التوريث مختلفة.. وقد كنت شخصيًا طرفًا فى أحدها.. فى نفس الوقت تقريبًا «منتصف ٢٠١٠» دار حوار بينى وبين صديق تربطنى به صلة عمل.. كان الرجل قريبًا من دوائر أمانة السياسات، وقال لى أعرف أنك غاضب ومحبط لكن الوضع سيتغير قريبًا.. سألته عن التغيير فقال.. سيكون لدينا رئيس مدنى فى العام المقبل.. كان ما يخصنى فى الموضوع أن سلسلة من الترقيات الإعلامية ستحدث بحيث يتولى أحد الزملاء منصب وزير الإعلام.. ويتولى آخر منصبًا قياديًا فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون.. وكانت نتيجة هذه الترقيات أن منصبًا قياديًا سيصبح خاليًا فى مكان عملى وأننى مرشح له.. أو تم الاستقرار على أن أتولاه.. ورغم أن ما يقوله الرجل كان بمثابة بشارة شخصية لى، فإننى وجدت نفسى أقول بهدوء «هذا السيناريو لن يتم».. نظر لى مندهشًا فواصلت قائلًا: «الجيش لن يسمح بالتوريث».. وصل ما قلته لقيادى أعلى وأكثر صلة بأمانة السياسات، ولأنه كان محدود الثقافة السياسية ويميل إلى الابتذال فى القول والفعل، فقد تخيل أن ما أقوله نوع من الدعاية السياسية ضد أمانة السياسات.. وما إن قابلنى حتى صاح مهددًا «ما تقوله غير مضبوط.. من أين جئت بهذا الكلام؟»، فرددت بهدوء «تحليل.. مجرد تحليل..» وتركته وانصرفت.. والحقيقة أننى لم أكذب فى حرف واحد مما قلته.. لا للصديق الأول الذى حمل لى البشارة.. ولا للزميل الثانى الذى عبرت له عن اعتقادى بفشل مخطط التوريث.. كان ذلك مجرد تحليل ونبوءة.. وأمنية أيضًا. 

والحقيقة أن السيناريو الأمريكى الذى بدأ تطبيقه فى المنطقة منذ ٢٠٠٤ جعل الجميع يتعاملون مع إنهاء دولة يوليو على أنه أمر واقع، وأن مستقبل مصر بعد مبارك ينحصر فى المنافسة بين شلة «الليبرالية الجديدة» التى يقودها جمال مبارك، وبين «جماعة الإخوان- نسخة الشاطر»، وهى أيضًا يقودها خيرت الشاطر وحسن مالك، وهما رجلا أعمال اعتنقا أفكار الليبرالية الجديدة، وفهما أنه لن يتم السماح للجماعة بالحكم إلا إذا انخرطت فى حركة التوكيلات الأجنبية.. إلى آخر تفاصيل اللعبة.. وهكذا تحولت جماعة الإخوان فى آخر خمسة عشر عامًا من عصر مبارك إلى شركة استثمارية تحقق أرباحًا بالمليارات فى السوق المصرية.. وتعيد استثمار أرباحها.. وتعين كوادرها كموظفين فى هذه المشروعات فتضمن ولاءهم.. وتكافئ العناصر الموالية بأن تمول لهم مشروعات خاصة بهم.. وقد حكى لى أحدهم أن هذا كان سر نفوذ خيرت الشاطر، حيث كان بمثابة «أمين استثمار الجماعة»، يذهب له شباب الإخوان بأفكار مشاريع تجارية واستثمارية مختلفة.. فإذا أعجبته الفكرة واجتاز الشاب الإخوانى الاختبار يؤشر بالموافقة على تمويل المشروع.. وهو ما يعنى أن يتحول الشاب الإخوانى من خانة المعدمين إلى خانة الميسورين.. ومن خانة أصحاب الملاليم إلى خانة أصحاب الملايين.. وبالطبع فإن جزءًا من أرباح المشروع الجديد يذهب لخزانة الجماعة لتمول به مشاريع جديدة وهكذا... إلى ما لانهاية. 

كان الصراع إذن بين «شلتين» من رجال الأعمال تتنافسان على نوال الرضا الأمريكى.. ومن ثم على الصعود لحكم مصر.. وكانت العلاقة بينهما علاقة منافسة لا صراع.. انطلاقًا من المثل الشعبى الذى يقول إن «مصارين البطن تتعارك»، فقد جلس خيرت الشاطر ومرشد الإخوان مع قيادات أمن الدولة ليتفقوا على سيناريو ٢٠٠٥ وعدد المرشحين المطلوب نزولهم.. وعندما خالفوا الاتفاق فى المرحلة الثالثة تم اعتقال ٨٠٠ من أعضاء الجماعة بعد صدامات بدنية بينهم وبين أنصار المرشحين الآخرين.. وسرعان ما أفرج عن الأعضاء الذين تم اعتقالهم.. وفى ٢٠٠٧ تم القبض على خيرت الشاطر ومجموعة من أعضاء مكتب الإرشاد بتهمة غسل الأموال.. وكان ذلك عقب استعراض عسكرى نظمه طلاب الإخوان فى جامعة الأزهر، ارتدوا فيه الملابس السوداء والأقنعة التى تغطى الوجوه وأدوا استعراضًا للفنون القتالية فى ساحة الجامعة واستعانوا ببعض الأسلحة الخشبية التى تستخدم فى فنون القتال.. قيل إن محمد البلتاجى، الأستاذ فى طب الأزهر، هو الذى هربها لهم فى سيارته الخاصة.

وكان من اللافت أن «صحيفة الدستور» وقتها برئاسة تحرير إبراهيم عيسى راحت تدافع عن الإخوان وتنقل تصريحات أسرة خيرت الشاطر، وتصف ما تعرض له بالانتهاكات.. وتكتب موضوعات عن مصير مرشدى الإخوان، وكيف واجهوا العنت والاضطهاد، ولكنها كانت تخفى عن الناس الجرائم التى تورط فيها مرشدو الجماعة وقادتهم إلى ما وصفته الصحيفة بـ«الاضطهاد».. لكن الصحيفة لم تخالف الحقيقة حين قالت إن سبب القبض على الشاطر ورفاقه هو الصراع على السوق بينهم وبين شلة أمانة السياسات، وإن لم تقل إن الصراع الحقيقى كان على الرضا الأمريكى. 

وكما أشرنا من قبل، فقد كان الدعاة الجدد إحدى الأوراق التى استخدمتها الجماعة للعب حسب مقتضى الحال، ولا شك أن الداعية عمرو خالد كان أبرز هذه الأوراق وأنجحها.. وكان الأكثر قدرة على ملاعبة جمال مبارك، حيث تم تقديمه للغرب على أنه نموذج متطور يجمع بين الإسلام والبروتستانية ومحاباة الأثرياء، وهو نموذج تم دعمه فى تركيا عام ٢٠٠٢، وكان مقصودًا تعميمه فى المنطقة، وقد خصصت النيويورك تايمز ملحقًا كاملًا عن عمرو خالد فى ٢٠٠٧ ووضعت له عنوان «مد يد العون لمسلم متطلع»، وقد حررت الملحق سامنتا شابيرو.. وهى صحفية يهودية رافقت عمرو خالد فى سفرياته عبر العالم.. وقابلتنى عندما جاءت إلى مصر لتستطلع الرأى، وقد قلت لها رأيى الذى كنت أقوله دائمًا «إنه إخوانى صميم.. من قمة رأسه إلى أخمص قدميه».. وفى ظنى أن «سامنتا» كانت لها مهمة أخرى هى تقييم حالة عمرو خالد، وما إذا كان يصلح لمنافسة جمال مبارك فى حالة إقرار السيناريو الأمريكى.. خاصة أنه كان نقطة التقاء بين جماعة الإخوان ورجال الأعمال وبعض مسئولى دولة مبارك. 

بالرجوع إلى التقارير التى نشرتها الصحافة الغربية عن مصر فى هذه السنوات نجد أنها كانت تركز على السلبيات، ولا أحد يعرف هل كان ذلك بسبب زيادة السلبيات فعلًا، أم لأنه كان مطلوبًا تمهيد الطريق للسقوط.. لقد كان الإعلام أحد العوامل التى تم الاختلاف حول دورها فى سقوط نظام مبارك.. وقد نسب لأحد كبار مسئولى نظام مبارك أنه قال إن وسائل الإعلام الخاصة التى سمحوا بها لرجال أعمال مقربين هى التى أدت لسقوط النظام.. فى حين كان أصحاب هذه القنوات يدافعون عن أنفسهم ويرون أنهم أطالوا عمر النظام.. لكن الحقيقة أنهم يكذبون.. لقد كانت الفكرة مع عام ٢٠٠٠ هى ظهور قنوات مصرية تقدم منتجًا جذابًا وترفع هامش النقد بما يمنع لجوء المشاهد المصرى لقنوات غير مصرية مثل الجزيرة مثلًا.. وقد قدمت هذه القنوات بالفعل فى سنواتها الأولى برامج رائعة.. وكانت تعبر عن مشاكل الناس.. مثل نقص الخدمات فى مجال معين.. أو مشكلة يعانى منها مواطنون فى محافظة معينة.. وهو دور رائع وإيجابى كان تقوم به بعض برامج التليفزيون المصرى أحيانًا «برامج ملك إسماعيل مثلًا»، لكن ما إن جاء عام ٢٠٠٥ وهبّت رياح التغيير حتى راح كل صاحب قناة يغنى على ليلاه.. فالبعض عبر عن ضيقه من عجرفة أحمد عز معه برفع جرعة النقد والمعارضة بشكل أضر النظام الذين هم جزء منه.. والبعض رأى أن عليه مقاومة نفوذ رجال الابن والسعى لنصيب أكبر من التورتة.. وبعض الإعلاميين كان يلعب لحسابه مثل الإعلامية منى الشاذلى التى حملت كاميرات برنامجها وذهبت لمحاورة محمد بديع مرشد الإخوان.. وفى خلفية الصورة عَلمُ الإخوان يطل منه السيفان المتقاطعان على المصحف.. وكان البعض يرى أن انتقاد المسئولين والسخرية منهم يرفعان من أسهمه لدى المشاهد.. ويجلبان مزيدًا من الإعلانات لبرنامجه ويقدمه كبطل شعبى.. ومن هؤلاء الأستاذ محمود سعد وهو إعلامى بالغ اللطف.. لم يترك فنانًا إلا ومدحه.. ولم يترك فنانة إلا وتغزل فى فنها.. ولم يرَ فى فيلم واحد رآه ما يستحق النقد.. لكنه كان يتحول إلى أسد هصور فى مواجهة المسئولين وادعاء المعارضة واشتهرت عنه كلمته الشهيرة «شوف لنا يا ابنى المحافظ على التليفون».

والغريب أنه كان يتمرغ فى خير نظام مبارك.. ويعمل بأوامر وزير إعلامه.. وقد كشف الوزير أنس الفقى عن أنه كان يلح عليه فى أن يجعله يحاور جمال مبارك ويقول له إنه خير من يستطيع أن يقدمه للناس.. والأغرب أنه كان يتلقى مكالمات من الرئيس مبارك.. الذى كان ينفق جزءًا من وقته فى مشاهدة التليفزيون والاتصال بالإعلاميين وتجاذب أطراف الحديث معهم.. فضلًا عن وقت آخر كان يقضيه فى مقابلة بعض نجوم الكوميديا لتسليته والتخفيف عنه.. وبالرغم من هذه الاتصالات فقد انقلب محمود سعد على مبارك مع أول أحداث ٢٥يناير وامتنع عن الظهور.. وهو بالتأكيد لم يكن عضوًا فى جماعة الإخوان.. لكنه واحد من الذين خدموا الجماعة.. وكان يطلق على مرشد الجماعة لقب فضيلة المرشد.. فى خلط واضح وفاضح بين أن يكون المرء متدينًا- أو مدعيًا للتدين- وبين أن يخدم جماعة الإخوان.. وقد لعب معه وزير الإعلام لعبة سياسية.. حين اتصل به على الهواء بعد تنحى مبارك وكشف حقيقة مواقفه والرقم الذى كان يحصل عليه، وهو تسعة ملايين جنيه بأسعار عام ٢٠١٠.. ودون شك لعب الإعلام دورًا سلبيًا فى سقوط نظام مبارك ومؤسسات الدولة معه.. وكان السبب الرئيسى هو رغبة مبارك فى أن يثبت للأمريكان استجابته للضغوط.. وإقدامه على توسيع هامش حرية التعبير.. وأنه- أو ابنه- يستطيع الحكم رغم وجود معارضة قوية.. وقد أدى كل ذلك مع عوامل أخرى إلى شعور الناس بضعف الدولة، وبالتالى ميلهم إلى قبول التغيير والتجريب.. وهو ما حدث فى ٢٥ يناير وما بعدها. 

الإثنين المقبل ٢٥ يناير.. لماذا نزلت الدبابات وهى تحمل شعار يسقط «حسنى مبارك» ؟