جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

قوة الأدب

غالبًا ما تأتى الأعمال الأدبية كأشباح بلا شكل فى وعى الكاتب، ويسقط العمل فى تلك اللحظة بقوة مشتركة بين كل من وعى الكاتب، وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره فى الوقت نفسه، هكذا كتب ماريو فاراجاس يوسا، الروائى الحائز على جائزة نوبل فى ٢٠١٠، هذه الأشباح يتعامل معها الشعراء والروائيون، وبواسطة الكلمات يظهر شكل النص، إيقاعه، حركته، حياته، التى هى حياة مصطنعة، بل حياة متخيلة، صنعتها اللغة، لا يكون الأدب أدبًا من خلال شخص واحد، بل يكون حقيقيًا حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءًا من الحياة الاجتماعية، وبالقراءة يتحوّل إلى تجربة مشتركة، تدفع المجتمع إلى الحوار والإصغاء إلى الهموم الصغيرة، أما الكتابة فى الصحف فهى شىء مختلف، لأنك مطالب بإرضاء المستهلك الذى يبحث عن كلام مريح، ليس ضروريًا يكون مفيدًا، وأيضًا لإرضاء صاحب العمل الذى يهمه أن تكون مقروءًا على نطاق واسع.

الصحافة بالنسبة للأديب هى تدريب على الاستجابة كما قال هيمنجواى، وهى التى طورت الكتابة الأدبية بسبب تخليها عن الحيل البلاغية التى كانت تصقل اللغة، الصحافة المصرية خرجت فى معظمها على أيدى أدباء، ولعبت أدوارًا عظيمة فى تحديث المجتمع، ولحسن الحظ لم ينجح المتشددون الإسلاميون فى هذه المهنة لأسباب كثيرة، أهمها غياب الخيال وضيق الأفق وسوء النية، الأدباء تم إبعادهم من المهنة منذ ثلاثين عامًا، واكتفت بتشغيلهم فى أماكن غير مؤثرة فى الصحف، لتغيب الحميمية فى التواصل مع الناس، بعض الصحفيين نجحوا فى عمل تجارب ناجحة على المستوى التجارى، من خلال الفضائح والابتزاز والإعلاء من شأن كل ما هو شعبوى، وأصبحوا مع الوقت شيوخًا للكار الذى لا يوجد من يحتكم إليه فيه الآن، قوة الأدب تكمن فى أنه يسمح لنا بأن نحيا حيوات عديدة وهذه واحدة من أعظم مميزاته، ولم يتم استثمار هذه القوة فى مهنة الصحافة التى تراجعت أمام فنون أخرى مثل الدراما والسينما، الأديب يتقمص شخصيات متعددة ويختبر عقليات متباينة، ويجعلنا نغوص فى مغامرات فى عوالم غير عالمنا، ولكى تتأكد من الخسارة الفادحة الناتجة عن غياب الأدب فى الصحافة، انظر إلى مقالات الرأى، لا يوجد ما يميز كاتبًا عن آخر سوى الخندق الذى يطلق صوته منه، تشعر بأنك أمام رقصة بدائية على جثة حدث واحد تناقلته وكالات الأنباء بالأمس، لغة سليمة واضحة، ولكن دون ماء ولا عاطفة، مفردات متشابهة تتحدث فى الموضوع نفسه، نادرًا ما يلمس أحدها قلبك، فى أحداث غزة الأخيرة نجحت فلسطين كلها وعادت مصر سيدة للمنطقة بأدائها النبيل، ومع هذا لم يعمل الخيال على جذب الناس من قلوبهم، للتأكيد على استمرارية الحالة الجميلة لدى الناس، «يوسا» صاحب «حفلة التيس وامتداح الخالة» الذى لم يتوقف عن الكتابة للصحافة يرى أيضًا أن الأدب ليس شيك ضمان على السعادة، بل العكس ما يحدث أحيانًا، بطريقة ما، فهو يحولك إلى شخص حزين، لأن من خلاله تفهم أن هناك حيوات أغنى من حياتك، فتصبح واعيًا بحقيقة أنك قليل الأهمية.

قبل ٢٦ عامًا بدأت كتابة «تفاصيل» فى هذه الصحيفة العزيزة، كانت الرغبة فى الكتابة طاغية وكانت الأحزان أقل، والطاقة أكبر، وبعد هذه السنوات أمسكت نفسى متلعثمًا، وكأننى فى أول الطريق، أبحث عن قارئ وحيد مثلى أرتجل معه ما يكفى لتمضية الوقت، بعيدًا عن جثة الحدث، قارئ سبق أن تعرف علىّ ويعرف أننى فى المكان الذى تركنى فيه، وأقول له: إننا نعيش على كوكب حزين، ولكننا فى حاجة إلى أن نكون معًا، ضد الأوبئة وضد آخر معاقل الهمجية فى تل أبيب، وضد الظلم وضد ما يعرقل خطواتنا نحو المستقبل، البشرية فى لحظة مرتبكة تحتاج إلى من يهمس فى أذنها ولا يروعها.