جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«جنازة السيدة البيضاء».. رواية جديدة للكاتب عادل عصمت

عادل عصمت
عادل عصمت

يصدر قريبًا عن الكتب خان - القاهرة، أحدث أعمال الكاتب الكبيرعادل عصمت، رواية "جنازة السيدة البيضاء" والتي يقدم فيها تجربة فنية جديدة ومتعمقة في شخصية وحياة عالمة الأثير في ريف الدلتا المصرية.

تبدأ رواية "جنازة السيدة البيضاء" من لحظة الذروة، يقدم فيها عادل عصمت أكثر أعماله درامية، من خلال لحظات احتضار "نعمة"، الأم والزوجة، مؤلفًا لها نشيدًا جنائزيًا شجيًا وإنسانيًا، مستعينًا بخمسة خطوط لحنية تتقاطع وتتشابك وتتصاعد معًا على إيقاع أنفاس "نعمة الأبيض" الأخيرة، حتى تصل ذروتها اللحنية عند جنازة السيدة البيضاء، والخطوط الخمسة هي أصوات الزوج، والعاشق، والابنة، ونعمة الأبيض، والرواي . 

خمسة وجوه أو آلات لحنية اختار الكاتب أن يكشف لنا من خلالها قصة السيدة البيضاء منذ كانت فتاة جميلة حالمة في قريتها وكيف صارت في طليعة المتعلمات من فتيات القرية، ومصيرها مع زوج مستبد. رحلة السيدة البيضاء من الطفولة إلى الكهولة ثم الموت، بعد أن انطفأت فيها شعلة النور والحياة. تتشابك مع تاريخ قرية "نخطاي" الذي يسرده الراوي منذ الحملة الفرنسية على مصر وحتى ثورة 25 يناير.

يتعمق الكاتب أكثر في منطقته الأثيرة، في ريف الدلتا، من خلال الكشف عن الإرث الأخلاقي والاجتماعي والجغرافي الذي يحيط بشخصياته، ويشكل مصائرهم، وتكتسب الرواية عمقًا ورمزية من خلال الحفر في طبقات المجتمع الذي تقدمه، وهو بالتأكيد قطعة من روح مصر، برع الكاتب في كشفها ورصد تحولاتها وأثرها في قالب روائي لم يتخل عن فنيات القص والحكي والدراما، محافظًا على الإمتاع والمؤانسة بسلاسة لغوية وفنيات آسرة.

"جنازة السيدة البيضاء" عمل روائي ممتع ونافذ، يحمل بين طياته مستويات عديدة للقراءة، يكتسب فرادته من بناءه الدرامي وشكله الجمالي الأصيل.

من الرواية:

"في قديم الزمان، كانت "نخطاي" مجموعة من الدور وقصر آل راضي وأرض النخيل، تحيطها البراري على امتداد البصر. في ذلك الزمن ظن الناس أن بلدتهم آخر بلدة في البر، وأن من يمشي خلال البراري حتى نهايتها سوف يصل إلى بوابات العالم الآخر. في تلك الأيام البعيدة، وفي ظهيرة من ظهيرات الصيف، كانت صبية تغسل المواعين عند شاطئ الترعة. تحت شجرة صفصاف شعر البنت. الماء في الترع عالٍ في ذلك الوقت من الصيف. تفوح في الجو رائحة الطمي. ونخطاي تستعد بسدودها لكي تواجه الفيضان. الماء يمور حولها عارمًا، بلونه الطيني اللامع. رفعت الصبية عينيها فرأت شابًا من عائلة راضي يقع من فوق الحصان. كل ما فعلته أنها ضحكت وكتمت ضحكتها في صدر جلبابها عندما قام الولد من الأرض ونظر إليها بغضب ثم نادي السايس أن يسحب الحصان إلى الإسطبل.

يقولون في نخطاي إن هذا الموقف هو أساس عائلة الأبيض، بكل ميراثها من العلم والاعتزاز بالنفس المبالغ فيه الذي يسميه العقيد عثمان الفقي "عجرفة فارغة" أو "نفخة كذابة"، لكن الأهم أنه أساس وضع مقبرتهم في القلب من ذلك الميراث، تُروى قصتها على أنها حكاية العائلة.

عائلة الأبيض من بين عدد محدود من عائلات نخطاي تصر، حتى انكسار العقد الأول من الألفية الثالثة، أن تقضي شطرًا من الأعياد مع الجدود في المقابر. عادة لازال يعمل على صيانتها الآن "أنس الأبيض"، مدرس الرياضيات في مدرسة نخطاي الثانوية والأخ الأكبر لنعمة التي ترقد الآن تصارع الموت وقد أغمضت عينيها منتظرة القضاء، تفكر في باحة البيت وأبيها يرتدي الجلباب الكشمير والعباءة في صباح العيد الكبير ويقول: "يا للا يابت انت وهي، شهلوا شوية، نلحق نزورهم قبل الشمس ما تطلع".

لابد أن يقوم أكبر فرد في عائلة الأبيض بأداء مراسم ليلة العيد. يفرش الحصير ويجلس بجوار أهله عند القبر. رغم أن هذه العادة قد بطلت، وتوقف أغلب أهل نخطاي عن تناول إفطار آخر أيام رمضان ووقفة عيد الأضحي في المقابر، لكن عائلة الأبيض لم تتوقف عنها. وفي الأعوام الأخيرة ازداد إصرار العائلة على تلك العادة عندما أبطلها انتشار الأفكار السلفية ولم يعد أحد يذهب في الأعياد إلى المقابر، غير عجائز البلد. الناس في نخطاي تعرف قصة المقبرة ولذا لم يعتبروا الأمر خروجًا عن الإجماع ولا تحديًا للتفسير الجديد الذي أشاعه السلفيون، بل محافظة على ذكرى دماء سالت عندما بُنيت تلك المقبرة.

ترسخت حكاية المقبرة في الأذهان بسبب تلك العادة. لا أحد من عائلة الأبيض لايعرفها. فقد حكيت أمامهم عشرات المرات حتى "مروان" ابن نعمة الذي يكمل دراسة الطب في ألمانيا وابنتها "منار" التي تعمل طبيبة في معهد ناصر في القاهرة، يعرفون تلك التفاصيل، التي سمعوها وهم يلعبون على المراجيح في باحة الدار، أو في الغيط في أصباح ضبابية ينتظرون فيها الجمال لتحمل القمح والأرز، أو في الليالي الواسعة لنخطاي عندما ينقطع التيار الكهربائي لساعات طويلة.

في تلك الحكاية أمر لا يطوله القدم، وإن كانت بعض تفاصيلها تتعرض للسخرية وتجعل المتمرد من فتيان العائلة يتوقف ليسأل كيف نقلت هذه التفاصيل عبر السنين؟ لكن الأمر لايخلو من تسامح فقد شاهدوا أكثر من دليل على صدق الحكايات".

صدر لعادل عصمت العديد من الأعمال الروائية: الوصايا، حكايات يوسف تادرس، أيام النوافذ الزرقاء، صوت الغراب، حالات ريم، حياة مستقرة، الرجل العاري، هاجس موت. وكتاب "ناس وأماكن"، وقصص "مخاوف نهاية العمر". حصل على جائزة الدولة التشجيعية وجائزة نجيب محفوظ، كما وصلت روايته "الوصايا" إلى القائمة القصير للجائزة العالمية للرواية العربية في 2019 وحصلت على جائزة ساويرس في الرواية، كبار الكتاب . ترجمت بعض من أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والصربية والإسبانية والصينية والإيطالية.