جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

يوسف إدريس عن طفولته: كنت أحلم وأفكر بنصف عقل والآخر كان منتبهًا للطريق

يوسف إدريس
يوسف إدريس

يُعد يوسف إدريس أيقونة القصة القصيرة في مصر والعالم العربي ، وأحد روادها الكبار، والذي ظل إلى اللحظة الراهنة حديث  النقد العربي بما قدمه من منجز إبداعي في مجال فن القصة القصيرة، وننقل لكم صورة الراحل  يوسف إدريس طفلا كما تحدث عنها.

ولد يوسف إدريس في  التاسع عشر من مايو عام 1927 ، يرصد  كتاب "أنا يوسف إدريس "  للكاتب الصحفي بشري عبد المؤمن فترة طفولة إدريس، ويذكر" إن والده كان يخرج من البيت منذ الفجر ولا يعود إلا مع حلول الظلام، يتجول في الحقول، ويتفقد العمال، وفي المساء يعود إلى بيته، فيتجمع حوله أبناؤه، يلاطفهم ويحكي لهم كل شيء شاهده أو سمع عنه، أما والدته، فإن غريزة الأمومة كانت تدفعها -قبل أي شيء- إلى إطعام أطفالها، وحمايتهم من الأخطار، فإذا حاول الأبناء أن يمارسوا هوايتهم بالاستحمام في الترعة كان الضرب من نصيبهم... هكذا تقدم أستاذة الأدب العربي بمعهد الاستشراق بموسكو فاليريا كيربتشنكو، يوسف إدريس، في دراستها عنه، والتي جاءت تحت عنوان «يوسف إدريس... خفايا الإبداع» والتي ترجمتها د. إيمان يحيى عن اللغة الروسية.

ويتابع الكتاب رصد تلك الفترة من حياة يوسف إدريس "التحق يوسف بالمدرسة المتوسطة في مدينة دمياط، حيث استأجر والده غرفة له ولأخيه الأصغر، فأصبح يوسف ذو الاثنى عشر عامًا، مرشدًا لأخيه وولي أمره، فعانى الصبي من افتراقه في سن صغيرة عن عائلته، وأحس بنفسه -كما كان يقول- «يتيمًا في حياة والديه»، ولم تكن سوى أحلام اليقظة هي تسليته الأولى، وبمساعدتها حاول الابتعاد عن الواقع المُرّ المحيط به، لكن قبل ذلك بسنوات كان الطفل يوسف إدريس يخرج عادةً قبل شروق الشمس، قبل استيقاظ الفلاحين المبكر، يخرج من الدار الكبيرة المبنية بـ«جواليص» الطين وأسقفها المصنوعة من أنصاف جذوع النخيل ومعرّشة بخوصها وجريدها، يخرج ليجد الضفادع والصراصير تعزف أصواتها القبيحة الملحّة المنكرة على ضفاف البِركة، والبِركة كانت شيئًا غامضًا غريبًا عليه؛ فكانت -على حد تعبيره- «كأنها حفرة حفرها جنّي غامض في قديم الزمان، وبقيت راقدة آسنة مخيفة، حين أفاجأ، وكل مرة أفاجأ، برؤيتها في الصباح وأمضي النظر قليلًا فيها أتصور أن سكانها من المَرَدَة والسَّحَرة والثعابين والتماسيح وسيجذبونني إلى قاعها الذي لا يعلم عمقه أحد، فأفر هاربًا إلى الطريق الزراعي».

صحيح أنه كانت هناك سكة حديدية، وأتوبيس يسمونه حينها «الثور نوكروفت»، عرف إدريس في ما بعد أنه من صنع إنجلترا وسُمي باسم صاحب المصنع. لم تكن تعليمات والده مشددة، ولكنها كانت مقدسة بالنسبة إليه، وهي أن يسير إلى المدرسة في المدينة الكبيرة على حافة الطريق الزراعي المجاورة لخليج صغير قديم، ولا يسير على الجانب الآخر الذي تجاوره السكة الحديد، كل هذا من خوفهم عليه أن يموت. ومن شدة هذا الخوف، وليس بسبب مادّي، كان على الطفل يوسف إدريس أن يتعذب قاطعًا تسعة كيلومترات يوميا، في زمهرير الشتاء وقيظ بدايات الصيف. وكان عليه أيضًا أن يختلط بغيره من خمسة أو ستة من التلاميذ الذين يذهبون أيضًا من القرية إلى المدرسة.

يقول إدريس: «وأنا وحدي أسير، على الجانب الموازي للخليج، غريب حتى عن زملاء الطريق، وعن القرية كلها، نحيف الجسد، أحمل غذائي المكون من بيضتين ثمنهما مليمان، والذي أبدًا لم يكن بتغير، فالبديل هو غذاء المدرسة الفاخر ولكنه فادح الثمن؛ إذ كان بقرشين، وكان عذابي في السير الوحيد بسيقاني الرقيقة، كنملة وحيدة تدبّ في طريق طويل طويل، يدفعني دفعًا إلى أن أفكر وأتأمل، وأحلم أحلام يقظة أن أعثر على كنز مثل كنز (مونت كريستو) أو تعشقني (الأميرة ذات الشعر) لكاتبها كامل كيلاني، ولكني أحلم وأفكر بنصف عقل، فالنصف الآخر كان منتبهًا إلى الطريق، وإلى السيارات القليلة التي تمر كالعاصفة، وإلى أين أضع أقدامي مخافة أن يتسخ حذائي وأُضرب بالخيزرانة في طابور الصباح، إذ كان هناك تفتيش دقيق على نظافة الأحذية ولمعانها».

كانت المدرسة محاطة بأرض زراعية واسعة وكان عمالها من الأطفال والرجال يتناولون طعامهم في نفس الوقت تقريبًا، وكثيرًا ما كان الطفل يوسف يصاحب أطفالًا مثله فقط ليسمحوا له أن يتغدى معهم، وكان غداؤهم دائمًا متواضعًا، يصفه إدريس فيقول: «عيش مصنوع من الذرة والحلبة وليس فيه أي دقيق قمح، والوجبة الرئيسية مكونة من المِشّ والبصل وبعض الحشائش الموجودة في الحقول، وكان طعم المش ورائحته يسيل له لعابي فأعطيهم البيض والجبن الرومي، ذلك الذي يتعاركون حوله، وأستمتع.