جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

فى ذكرى من أسطع أمجاد كنيسة الإسكندرية «3-3»

بعد انتهاء أعمال مجمع نيقية- المنعقد عام ٣٢٥م- رجع البابا ألكسندروس، البابا ١٩، ومعه شماسه النابغ أثناسيوس إلى الإسكندرية، ولكن البابا المُسن عاش بعد انتصاره خمسة أشهر فقط، إذ تنيح «توفى» فى ١٧ أبريل عام ٣٢٨م بعد أن أوصى بأن يخلفه شماسه أثناسيوس، ولكن الشماس أثناسيوس تقديرًا منه للمسئولية الجسيمة التى عليه أن يتحملها بقبوله هذا المنصب الخطير لجأ إلى الصحراء، ولكن الشعب طالب بتنفيذ وصية سلفه وكانت أصوات الجماهير تتعالى: «إنه رجل شريف وفاضل، إنه مسيحى ممتاز، إنه ناسك، إنه جدير برتبة الأسقفية»، وقد استجاب الشماس أثناسيوس إلى مطلب شعب الإسكندرية واجتمع ٥٤ أسقفًا ضموا أصواتهم إلى صوت الشعب وتمت رسامة الشماس أثناسيوس أسقفًا على كرسى الإسكندرية فى ١٧ يونيو عام ٣٢٨م، وكان يبلغ من العمر ٣٣ عامًا. 

لم يكن مظهر البابا أثناسيوس يوحى بما كان عليه من قيم وسجايا: فقد كان قصير القامة، عريض المنكبين، مع شىء من الانحناء، أسمر اللون، ولحية قصيرة. وبالرغم من ذلك فقد كانت تبدو عليه العظمة والمهابة. وفى دخيلة نفسه كان يجمع صفات نادرة جدًا وفضائل عظيمة: ذكاء خارق، وقلب نقى كريم، مع حزم شديد، وشخصية متزنة وعادلة ولا تميل مع الهوى، كما كان يجمع بين العلم الغزير والتواضع الجم، صرامة مخيفة مع كياسة كاملة، وبساطة محببة توائمها حكمة عالية، وفوق كل ذلك إيمان عميق أمام التجارب وشجاعة لا تُقهر. بهذه الصفات وهذا الاستعداد ظهر البابا أثناسيوس على مسرح الأحداث أثناء أزمة الآريوسية الدينية الخطيرة، كأنه الرجل الذى ادخرته العناية الإلهية، والمدافع البطل الذى لا يُقهر عن العقيدة الأرثوذكسية المستقيمة الرأى رغم ما صادفه من مقاومة عنيفة قاسى منها الأمرين طوال حياته. لقد وجدت أرثوذكسية نيقية فيه ابن نجدتها، فى وقت كان الخطر يحيط بها وكان عليها أن تجتاز أزمات شديدة قاسية، بل جاء عليها أوقات لم يكن هناك مدافع عنها سوى الشماس أثناسيوس وكان ذلك كافيًا. لقد جابه الشماس أثناسيوس الإمبراطورية وجيوشها والمجامع والأساقفة.

كان كرسى بابوية الإسكندرية منذ القدم هو الكرسى الرسولى أو الكرسى المرقسى نسبة إلى مؤسسه القديس مرقس الإنجيلى البشير، وكان خليفة القديس مرقس الجالس عليه يُدعى أبا الآباء- على شرط أن يكون الجالس عليه قد جاء طبقًا لقرارات مجمع نيقية- ولم يكن يُكنى فى ذلك العصر بذلك غيره من أساقفة الكنائس الأخرى فى العالم.

أما بعد مجمع نيقية فقد أصبح بابا الإسكندرية يُلقّب بـ«قاضى المسيحية فى كل العالم»، تُطاع أحكامه فى الأمور الدينية، وبلغ نفوذه فى العالم المسيحى إلى حد أن قال عنه القديس غريغوريوس النازينزى: «إن رأس كنيسة الإسكندرية هو رأس العالم». أين نحن الآن من هذا الدور الرائع الذى كان عليه رأس كنيسة الإسكندرية؟ أما فى المسائل المدنية فقد كان مركز رئيس كنيسة الإسكندرية مركز أمير ذى سلطان وبأس، وفى ذلك يقول المؤرخ الانجليزى «جيبون» إن «بطريرك الإسكندرية وهو على بُعد من بطانة الإمبراطور وعلى رأس عاصمة كبرى تمكن تدريجيًا من تولى مركز وسلطة قاضٍ مدنى..»، ولقد كان ذلك الوضع من أهم الأسباب التى جعلت الأباطرة يعملون على كسر شوكة كرسى الإسكندرية بنفى وتشريد البابا أثناسيوس حقدًا وغيظًا.

لقد كان البابا أثناسيوس جديرًا برئاسة شعب عظيم، فقد كانت الرابطة بين البابا أثناسيوس وشعب مصر رابطة دينية وطنية فى آن واحد، وكان شعبه وفيًا له أشد الوفاء وشديد التمسك بعقيدته وآرائه فلم يزده توالى الاضطهاد له إلا توثقًا ونماءً. لقد كان الشعب الوحيد الذى لم تستطع الإمبراطورية الرومانية أن تخضعه من بين الشعوب التى سيطرت عليها واستعمرتها إذ كان معتزًا بوطنيته وبوحدته أمام الغاصب سواء أكان وثنيًا أم مسيحيًا، وفضيلة هذا الشعب أن يلتف حول قائده وقت المحن ينصره ويشد أزره، ولا يمكننا أن نتصور فى التاريخ ملكًا يستطيع فى وقت محنته أن يثق برعاياه ويعتمد على إخلاصهم قدر جزء صغير من ثقة البابا أثناسيوس بولاء رعيته واعتماده على كتمانهم سره إذا أراد الاختفاء.

وفى عهد البابا أثناسيوس انضمت إلى كنيسة الإسكندرية أهم ملحقاتها وهى الحبشة فاتسع سلطان أسقفها. أين الآن كنيسة الحبشة؟ بعد الذى حدث فى انتخابات أسقف الإسكندرية عام ١٩٧١ بعد نياحة «وفاة» البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ الذى احتضن شعب الحبشة بأبوة معهودة.

وكان البابا أثناسيوس قد تنسك فى البرية زمنًا تتلمذ فيه للقديس أنطونيوس أب رهبان العالم- كما سبق وذكرنا- ولم تنقطع هذه الصلة عند ارتقائه كرسى أسقفية الإسكندرية، بل ظلت المودة بينهما شديدة، ومن مؤلفات البابا أثناسيوس ترجمة صادقة وذات قيمة لتاريخ صديقه الحميم القديس أنطونيوس، وكثيرًا ما قصد البابا أثناسيوس صديقه الأنبا أنطونيوس فى البرية، ومن فرط احترامه له وتودده إليه صب الماء على يديه كما فعل إليشع النبى- فى العهد القديم- لإيليا النبى، وكما هى العادة الشرقية فى هذه الأيام عند المبالغة فى الإكرام والاحترام.

وكان القديس أنطونيوس من أشد الناس اهتمامًا وتتبعًا لجهاد البابا أثناسيوس ومجادلاته اللاهوتية. وفى إحدى المرات وبينما كان البابا أثناسيوس فى أحرج أوقات جهاده ظهر القديس أنطونيوس فجأة فى الإسكندرية كعلامة تأييد لصديقه، فإذا بالوثنيين والمسيحيين يتسابقون لكسب طلبات وصلوات رجل الرب كما كانوا يلقبونه، وعند عودته خرج معه البابا أثناسيوس حتى باب المدينة مودعًا.

وقد بقيت أسباب تعلق الرهبان بكرسى الإسكندرية موصولة تزداد توثقًا برابطة الإخلاص والإيمان فى إطار الحب، ويدل على مدى هذا الشعور الرائع وصية القديس الأنبا بولا- أول السواح- رفيق القديس أنطونيوس أن يُدفن فى الرداء الذى كان البابا أثناسيوس قد أعطاه للقديس أنطونيوس، ليكون ذلك دليلًا على أنه تنيح «رقد فى الرب» على ولاء للبابا أثناسيوس ومتمسكًا بتعاليمه الأرثوذكسية. ويرينا البابا أثناسيوس فى كتابه «حياة أنطونيوس» المثل الأعلى للراهب فى نظره، فالراهب فى نظر أثناسيوس يجب أن يكون أرثوذكسيًا مخلصًا للكنيسة ومطيعًا لها ومزودًا بتعاليم واضحة وكافية عن الإيمان والسلوك المسيحيين، فهذا المؤلف يصح أن يُتخذ كدليل للنساك وكان ذلك ولا شك من أهداف البابا أثناسيوس، وكما قال أحد معاصريه لقد وضع قوانين الحياة النسكية فى شكل قصة.

وفى رسالة كتبها البابا أثناسيوس إلى الراهب «دراكونتيوس» لقبول كرسى أسقفية دمنهور، قال له فيها: «لقد كنت قبل انتخابك تعيش لنفسك، وأما بعد الانتخاب فقد صرت تعيش لأجل الآخرين، وقبل أن تصير أسقفًا لم يكن أحد يعرفك، أما الآن فالشعب ينتظر أن تحمل إليه الطعام الروحى وتعليمًا مطابقًا للكتب المقدسة». لقد كان البابا أثناسيوس يرى فى الرهبنة الخميرة الصالحة لإنماء الإيمان والمثل الأعلى للإنجيل فى محيط الكنيسة.