جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ترسيخ القيم الأخلاقية: مدخل لتحقيق المواطنة الصالحة والضبط الاجتماعى (2/2)

شهدت مصر والعالم العربى فى الأعوام الأخيرة تراجعًا ملحوظًا فى منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية، وانتشارًا غير مسبوق لسلوكيات وآفات وانحرافات اخترقت المجتمعات العربية وباتت تنذر بعواقب وخيمة تهدد فئات المجتمعات العربية كافة، وانطلاقا من المسئولية الوطنية والقومية والإنسانية بات من الضرورى متابعة الانحراف عن القيم المصرية الأصيلة كاحترام الكبير، والعطف على الصغير والإحسان للجار وتقدير المعلم واحترام قيمة العمل والولاء والانتماء للوطن والترابط الأسرى والتماسك المجتمعى وإعانة المحتاج وبر الوالدين والأقارب ويقظة الضمير وإعلاء المصالح العامة على المصالح الخاصة.

وفى ظل هذا التراجع الأخلاقى والقيمي الذى أصاب جزءًا من المجتمع المصرى بمختلف فئاته وأعماره ، وإيمانا بأهمية ترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية ودورها فى بناء المجتمع وتماسكه، ظهرت  مبادرات من الأزهر الشريف والكنيسة المصرية بالتعاون مع وزارات التربية والتعليم والتعليم العالى والثقافة  والشباب والرياضة والأوقاف والداخلية والمجلس القومى للمرأة وعدد من المثقفين والكتاب ورجال الصحافة والإعلام والفن والرياضة، بهدف إحياء القيم الإنسانية والأخلاقية والعمل على تضافر الجهود المجتمعية من أجل القضاء على السلوكيات اللاأخلاقية واستعادة منظومة القيم الإنسانية التى أقرتها جميع الأديان السماوية.  

كما قامت وزارة التربية والتعليم المصرية بعدة تجارب رائدة فى ترسيخ القيم الأخلاقية تمثلت في عقد عدة مؤتمرات خرجت بمجموعة توصيات كان من بينها استحداث مادة للقيم والأخلاق تم إقرارها على جميع صفوف المرحلة الابتدائية واعتمدت فى تدريسها على أسلوب التعلم النشط بما يحتويه من أنشطة وألعاب يقوم بها التلاميذ، لإحداث متعة فى التعلم وترسيخ للقيم الإيجابية، كما قامت الوزارة أيضًا بإصدار دليل مرجعي فى القيم والأخلاق للمواطنة يشير إلى مجموعة من السلوكيات ترتبط كل منها بقاعدة أخلاقية أو بقيمة من قيم الحق والخير والجمال، وذلك بالمشاركة مع الأزهر الشريف والكنيسة المصرية ووزارة الأوقاف، وقد اعتمدت فلسفة الدليل على عدة مقومات، منها:

• بعث التراث القيمي والخلقي وتنقيته من الشوائب التى تسربت إليه فى عهود الانحطاط والتدهور، وتنشيط وتنمية الضمير الأخلاقى، والوعي الاجتماعى لدى التلاميذ من منطلق أن قيم الحق والخير والجمال وقواعد الأخلاق تعكس حضارة المجتمع وتوجه سلوك أفراده، وعليها تؤسس العلاقات الاجتماعية وأساليب المعاملات، وفى ضوئها تصاغ النظم السياسية والاقتصادية والثقافية للأمة، وكذلك من منطلق أن الواجب الأخلاقى يكون أكثر شمولًا وتأثيرًا من الواجب القانونى؛ لأن الواجب الأخلاقى يشمل جوانب لا يتناولها القانون، أو يتناولها بطريقة مشددة، بحيث يفرض على الإنسان سلوكًا مثاليًا يقترب من درجة الكمال.
• توظيف مبادئ وتعاليم الأديان السماوية، التى تحدد ما يجوز وما لا يجوز فى مجال الفكر والسلوك والعمل، من منطلق أن الدين هو محور الظواهر الاجتماعية وأهمها على الاطلاق.
• زيادة الاهتمام بالقيم الأخلاقية في مواجهة الثورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة وما فجرته من قضايا أخلاقية ملحة وغير مسبوقة فى مقدمتها أخلاق بيولوجية، وأخلاق البيئة، وأخلاق المعلومات، وأخلاق الإنترنت.
• الانطلاق إلى المستقبل من خلال ضبط حركة الإيقاع بين ثلاثية: الإدارة، والعلم، والأخلاق بحيث تصبح لدينا إدارة تقدم العقول التى تثمر علمًا، وتوظف العلم لتثمر تكنولوجيا، وتوظف التكنولوجيا لتحل المشكلات وتطور المجتمعات، وتؤدي إلى تحسين جودة الحياة.
• تعليم القيم والأخلاق لمواجهة تحولات العصر التى أحدث تغيرًا جذريًا فى مناهج الحياة وأساليب التفكير والعمل والعلاقات الاجتماعية، وأظهرت الحاجة إلى وجود ميثاق أخلاقي يحدد القيم الأخلاقية التى ينبغى أن تحكم مجتمعنا، وتحمى خصوصيتنا وهويتنا في مواجهة موجات العولمة التي باتت تهدد خصوصيتنا الثقافية وهويتنا الوطنية، وتكرس قيم الفردية والأنانية والانتهازية واللامبالاة، والعنف والاستهلاك الترفى.
• مقاومة موجات السخط والملل وضعف الانتماء والتحامل والتطرف والتعصب والعنف ورفض الآخر وتقديم المادى على المعنوي والنزوع إلى الثراء السريع، وتكريس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وما إلى ذلك من موجات اجتاحت إنسان العصر الذي نعيشه الآن.
وفى سبيل دعم منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية وتحقيق المواطنة الصالحة والضبط الاجتماعى فى نفوس الطلاب، اتخذت وزارة التربية والتعليم في الفترة من 2015-2017 عدة إجراءات، منها:
• إصدار لائحة الانضباط المدرسى في عام 2016 لتضع الأساليب العقابية بشكل يضع العلاقة بين المعلم والطالب فى إطارها الصحيح، ويساهم فى ترسيخ القيم والأخلاق لدى التلاميذ ويساعد على وجود بيئة تعليمية تعتمد على السلوكيات القيمية السليمة.
• تطوير كتب التربية الدينية بمشاركة الأزهر الشريف والكنيسة، وأساتذة الجامعات، وممثلي الرأى العام لتكون الكتب أكثر معاصرة وتشويقًا، وأكثر ارتباطًا بقضايا المجتمع.
• تضمين القيم الوطنية والمبادئ الأخلاقية فى المناهج الدراسية.
• مراجعة الكتب المدرسية والتأكيد من خلوها من أية عبارات قد يساء فهمها أو استخدامهما من قبل التيارات غير الوطنية.
• كتابة إرشادات خلقية وسلوكية على أغلفة الكتب؛ حتى يطلع عليها الطلاب بصفة دورية.
• عقد تدريب لمعلمي مادة التربية الدينية حول "إثارة دافعية الطلاب نحو تعلم التربية الدينية".
• إجراء مسابقة سنوية لحفظ القرآن الكريم، والثقافة الإسلامية على مستوى الجمهورية.
• التعاون مع وزارة الأوقاف فى تنفيذ القوافل الدينية داخل المدارس للتوعية بمكارم الأخلاق.
• تنفيذ خطة الأنشطة اللاصفية فى توجيه اللغة العربية والتربية الدينية، عبر مجموعة من المحاضرات يقدمها أحد الموجهين المتميزين للطلاب فى مسرح المدرسة أو المكتبة عن أحد الموضوعات التالية: (بر الوالدين، رعاية المسنين، مكانة المعلم فى الإسلام، التسامح وقبول الآخر، تكريم الإسلام للمرأة، العفة والطهارة).
• إعداد حقيبة تدريبية لمعلمي التربية الدينية، بالتعاون مع الأزهر الشريف، والكنيسة المصرية واعتمادها وإدراجها فى خطة الأكاديمية المهنية للمعلمين، للارتقاء بمستوى معلم التربية الدينية.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود وغيرها التي بذلت لترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية كمدخل لتحقيق المواطنة الصالحة والضبط الاجتماعى، فإننا ما زلنا في حاجة ماسة إلى بذل مزيد من الجهد فى ظل المؤامرات التي تحاك داخليًا وخارجيًا ضد هذا الوطن بهدف تدميره وتفكيكه من الداخل، وعليه يمكن تعزيز دور مؤسسات المجتمع المختلفة وبصفة خاصة مؤسسات التعليم في ترسيخ قيم المواطنة لدى النشء والشباب، عبر عدة عوامل، نذكر منها:
• الاهتمام بتعليم التربية القومية والمواطنة في كل مراحل التعليم، والتركيز على موضوعات الحقوق والمسئوليات والمشاركة فــي اتخاذ القرارات القومية والقيم التي يمكن أن تترجم إلى مواقف عملية فى الحياة اليومية بما يجعل الفرد مواطنًا واعيًا في المواقف المختلفة.
• التركيز على توضيح أهمية احترام الآخر وفهم التنوع والتعدد بمعنى الثراء وسعة الرؤية.
• تمكين الشباب من خلال توفير البيئة الداعمة لمبادراتهم واستحداث فرص عمل لهم في القطاعين العام والخاص، وتكثيف الجهود لنشر ثقافة المشاركة والحوار معهم.
• محاصرة سلوكيات التطرف والعنف عند الشباب من خلال سياسات فعالة تدعم المواطنة الديمقراطية والعدالة ومعرفة الأسباب الحقيقية للتطرف عن طريق المختصين والاستناد إلى المؤسسات التربوية فى مواجهة المظاهر السلبية والعنف في المدارس.
• تمكين الفقراء من خلال استيعاب التلاميذ الأكثر فقرًا في مؤسسات التعليم وتوسيع فرص التعليم أمامهم بهدف تنمية الطاقات الكامنة لديهم.
• المشاركة الشعبية في عملية التنمية والتفاعل مع منظمات المجتمع المدني، حيث تؤدي زيادة فرص المشاركة إلى تحسين قدرة المجتمع.  
• تمكين المرأة وتحسين أوضاعها، وعدم تجاهل دورها في التنمية المستدامة.