جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ضحايا «الهدنة» الأفغانية!

 

 

احتفالًا بعيد الفطر، انتشرت قوات الأمن الأفغانية فى المساجد، وقامت بتفتيش المصلين. ولم ترد أنباء عن اشتباكات مباشرة بين مسلحى حركة «طالبان» والقوات الحكومية، لكن الانفجارات قامت بالواجب، وقتلت عشرات وأصابت مئات، طوال أيام «الهدنة» الثلاثة، التى انتهت أمس، السبت، و«من الناحية التاريخية، يزداد العنف فى أفغانستان عقب عطلة عيد الفطر»، بحسب تحذير أمنى أصدرته السفارة الأمريكية فى كابول، طالبت فيه رعاياها بالتزام الحيطة والحذر، وأوصت المواطنين الأمريكيين، إجمالًا، بعدم السفر إلى أفغانستان.

الهدنة أعلنتها حركة «طالبان» واستجابت لها الحكومة الأفغانية. وبعد صلاة عيد الفطر، دعا الرئيس أشرف غنى الحركة إلى اغتنام فرصة مغادرة القوات الدولية من أجل تحقيق السلام. ونقلت قناة «طلوع نيوز» الأفغانية عن غنى أن «طالبان لا يمكن أن تحظى بفرصة أفضل من هذه». وأكد أن الشعب الأفغانى «يعرف المسئول عن الانفجارات والتفجيرات الانتحارية». ونعترف بخطئنا حين اعتقدنا، فى مقال سابق، أن الإرهابيين فى أفغانستان أقل فجاجة، أو أكثر آدمية، من الإسرائيليين فى الأرض المحتلة ومن الحوثيين فى اليمن ومن الإخوان حيثما كانوا.

تلك هى الهدنة الرابعة، تقريبًا، خلال عقدين من الحرب، وكان من المفترض أن تتيح للأفغان الاحتفال بعيد الفطر. لكن حركة «طالبان» أفسدتها، بعد أن استبقتها بالاستيلاء على منطقة تبعد نحو ٤٠ كيلومترًا عن العاصمة كابول. ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن طارق عريان، المتحدث باسم وزارة الداخلية، الأربعاء، أن «قوات الأمن والدفاع نفذت انسحابًا تكتيكيًا من مقر الشرطة فى منطقة نيرخ» فى ولاية ورداك. ولوكالة «رويترز» قالت ظريفة غفارى، رئيسة بلدية وردك، إن القتال قد يصل إلى أبواب كابول فى غضون أيام قليلة، ما لم تتم استعادة السيطرة على المنطقة.

تعهدت واشنطن و«حلف شمال الأطلسى» بسحب جميع القوات المنتشرة فى البلاد بحلول ١١ سبتمبر المقبل؛ الذى يوافق الذكرى العشرين لاعتداءات ٢٠٠١ فى الولايات المتحدة. وفى حين تتجنب الحركة المواجهات مع القوات الأمريكية، قامت بتكثيف هجماتها على القوات الأفغانية. وفى الأسابيع الماضية اشتدت المعارك، وحاصر مقاتلو «طالبان» مدنًا كبرى، ما يشير إلى أنهم يستعدون حال اكتمال الانسحاب الأمريكى، لشن هجمات واسعة النطاق فى جميع أنحاء البلاد.

أسابيع المواجهات العنيفة فى كافة أنحاء البلاد، تخللتها سلسلة انفجارات أمام مدرسة للبنات، فى ٨ مايو الجارى، بحى الهزارة غرب العاصمة، أسفرت عن مقتل أكثر من ٨٥ شخصًا، وإصابة حوالى ١٥٠، معظمهم من الفتيات، خلال مغادرتهن المدرسة. ما جعل آدم كينزينجر، عضو مجلس النواب الأمريكى، يتوقع «مستقبلًا مظلمًا لأفغانستان»، وأن «تستأنف حركة طالبان حربها ضد النساء، وتحرمهن من حقوقهن الأساسية، وتعيد البلاد إلى الوراء بطرق قمعية».

المستقبل سيكون مظلمًا فعلًا، لأن حركة «طالبان» تسيطر الآن على مساحات أكبر من الأراضى، منذ أن أطاحت الولايات المتحدة بحكمها سنة ٢٠٠١، وبعد حرب استمرت عقدين، و«أسفرت عن مقتل ٢٤١ ألف شخص، وكلفت الولايات المتحدة ٢.٢٦ تريليون دولار»، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين والمشردين، بحسب دراسة حديثة أجراها معهد واتسون التابع لجامعة براون الأمريكية، ومركز باردى فى جامعة بوسطن.

القوات الأفغانية لن تتمكن، غالبًا، من مواجهة «طالبان» فى فترة ما بعد الانسحاب. وبحسب تقرير للمخابرات الأمريكية فإن الحكومة الأفغانية «ستكافح» حتى يكون بمقدورها الثبات فى مواجهة الحركة «الواثقة من نفسها». وسبق أن أقر أنتونى بلينكن، وزير الخارجية الأمريكى، بأن الانسحاب الشامل من أفغانستان قد تكون له تداعيات خطيرة، وقال إن الوضع الأمنى قد يصبح أسوأ، وتستولى حركة طالبان على أراض بشكل سريع بعد الانسحاب. ولهذا السبب، طالب مسئولون أمريكيون سابقون وزيرى الخارجية والدفاع بتوفير تأشيرات دخول للأفغان الذين عملوا مع الولايات المتحدة فى أفغانستان قبل انسحاب القوات الأمريكية.

الرسائل، التى اطلعت عليها «رويترز» ونشرت تقريرًا عنها، الأربعاء، حملت توقيع حوالى ١٠٠ مسئول سابق، شارك بعضهم فى صياغة السياسة الأمريكية تجاه أفغانستان خلال السنوات العشرين الماضية. ومن بينهم أربعة سفراء أمريكيون سابقون فى أفغانستان. وجاء فى تلك الرسائل أن حوالى ١٨ ألف متعاون أفغانى، فى انتظار البت فى طلبات حصولهم على التأشيرة، خشية أن يتحوّلوا إلى أهداف لـ«طالبان» بعد خروج القوات الأمريكية. وكان عدد من هؤلاء قد تجمعوا فى أحد أحياء كابول، وناشدوا واشنطن عدم التخلى عنهم. 

مع الفوضى والانفلات الأمنى، وصعود حركة «طالبان» من جديد، لن يتحقق السلام المنشود ولن يعود الاستقرار الغائب، وسيكون الطريق مفتوحًا لظهور تنظيم إرهابى جديد، أكثر عنفًا من القاعدة وداعش، وستنفتح شهية دول إقليمية للتدخل فى الشأن الداخلى الأفغانى، مدعومة بأطراف محلية، فى تكرار لما حدث فى العراق، سنة ٢٠١١، بعد انسحاب أمريكى مماثل.