جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ترسيخ القيم الأخلاقية.. مدخل لتحقيق المواطنة الصالحة والضبط الاجتماعى (1-2)

تمثل التربية في علاقتها بالمجتمع نـزعة إنسانيـة محورها الإنسان، والتعليـم باعتباره جزءا من التربية يمثـل شـبكة مـن الأنشطة التـربوية تغطى كـل مـراحل عمر هذا الإنسان، والتـربية والتعليم بهـذا المعنـى يمتلكان القدرة على مواجهة قـضايا المجتمع الإنسانى بما تتضمنه من حقوق وواجبات ومشاركة وتفاعلًا وصـولاً إلـى تحقيق أنسنة الإنـسان وبناء مجتمع يتسم بالتماسك والاستقـرار، ومن هذا المنطلق تلتمس كافة المجتمعات الإنسانية من التـربية والتعليم سبلاً لتنشئة الأطفال وتربية الكبار على روح التسامح واحترام الآخر والتفاعل مع الثقافات المختلفة، ومن ثم تقليل حالات التطرف والعنف وتعزيز السلام الداخلي والمواطنة الصالحة والضبط الاجتماعي، وذلك من خلال وضع القيم الأخلاقية والإنسانية كمكون جوهرى في المناهج الدراسية والأنشطة التربوية وتعليمها أثناء تنشئة الأطفال، وكذلك من خلال التركيز على الدور التفاعلي للمعلم داخل الفصل الدراسي باعتباره مرشدا وميسرا وموجها بكرامة واحترام مع كل التلاميذ دون تمييز، انطلاقًا من قناعة مؤداها أنه لا يوجد طالب مشكلة، وإنما يوجد طالب يعاني من بعض المشكلات ويحتاج إلى مساعدة على تعديل سلوكه غير المقبول .

والقيم- طبقًا لقاموس ويبتسر- تعني معايير ومبادئ تستخدم للحكم على الأشخاص أو الأشياء أو الأفكار أو الأفعال، كونها مرفوضة وغير مرغوب فيها، أو مقبولة ومرغوب فيها، وتعرف القيم على أنها: محددات لسلوك الإنسان، وإطار مرجعي يحكم هذا السلوك عند ممارسة الأعمال المختلفة، كما أنها تمثل أحكاماً معيارية يُستند إليها في إصدار حكم على الموضوعات والأشياء وسلوك وأفعال الآخرين؛ وبذلك فهى تلعب دوراً مهمًا في الضبط الاجتماعى، على اعتبار أنها توجه سلوك الفرد وممارساته نحو الأمور المرغوب فيها اجتماعياً، ومن ثم فهى تمثل أدوات معنوية لتحقيق المواطنة الصالحة.

ويختلف مفهوم المواطنة من مجتمع إلى مجتمع آخر، ومن فرد إلى فرد آخر داخل المجتمع الواحد حسب فهم كل طرف لها، وتعرفها دائرة المعارف البريطانية على أنها تمثل "علاقة الفرد بالدولة كما تحددها قوانين تلك الدولة بما تتضمنه هذه العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة ودرجة من الحرية في إطار بعض المسئوليات".. والمواطنة بمفهومها الواسع تعني العلاقة الوجدانية بين الفرد والدولة التي يقيم فيها بشكل دائم بما يؤدى إلى ارتباطه بها ثقافيًّا، وتاريخيًّا، وجغرافيًّا، ويعد الشعور بالمواطنة من التوجهات المدنية الأساسية التي تتمثل فى احترام القانون والنظام العام، واحترام حقوق الإنسان، وضمان الحريات الفردية، والتسامح، وقبول الآخر، وحرية التعبير وغيرها بصرف النظر عن اختلاف المنطلقات العقائدية والفكرية أو المرجعيات الأيديولوجية.. ويمكن تعريف المواطنة في إطار هذا المقال على أنها مجموعة مبادئ يكتسبها الفرد من خلال تفاعله مع أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه ويتواجد فيه، وتساعده على تكوين شخصية يستطيع من خلالها التعايش في ذلك المجتمع.

وفى ضوء ما أفرزته ثورات ومتغيرات العصر الحالي ومستحدثاته- وبصفة خاصة العولمة بشكلها المتوحش الذى تخطى الحدود وصار يهدد الهويات الوطنية وتماسك المجتمعات المستقرة- باتت قضية ترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية وتوظيفها في تحقيق المواطنة الصالحة والضبط الاجتماعي بمثابة قضية مجتمعية تفرض نفسها بقوة عند معالجة أي بُعد من أبعاد التنمية البشرية والإنسانية، بما يتضمنه ذلك من مشروعات للإصلاح والتطوير وتوظيف للمناهج الدراسية والأنشطة التربوية في المراحل التعليمية المختلفة، وتزويد كل أفراد المجتمع بالمعارف والقيم والاتجاهات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي تساعدهم على التكيف مع التغييرات المختلفة ومواجهة تحدياتها في ضوء الخصوصيات المجتمعية.

وفي ضوء ما أفرزته العولمة من تغيرات شهدها العالم في العقود الأخيرة بات الشباب العربى بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة، يواجه غزوًا فكريًا وثقافيًا وأخلاقيًا، يستهدف بلبلة الفكر وإفساد العقل وتدمير الأخلاق وطمس الهوية الوطنية؛ الأمر الذى أبرز أهمية ترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية وتوظيفها في تحقيق المواطنة الصالحة والضبط الاجتماعي في المجتمعات العربية بهدف المحافظة على الهوية الوطنية والقومية وحمايتها من المخاطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية محليًا وإقليميًا وعالميًا، عبر تطبيق سياسات تتبنى إكساب أبناء المجتمع المعارف والقيم والاتجاهات والمهارات التي تمكنهم من تمثل قيم المواطنة وممارستها في حياتهم اليومية.

ويزيد من أهمية بناء الممارسات الأخلاقية الفاضلة لدى أبناء المجتمع المصرى والعربى تلاحق الثورات العلمية، والتكنولوجية، والمعلوماتية، والتكتلات الاقتصادية وتطور المنصات الإعلامية وما يرتبط بها من استراتيجيات حروب الجيلين الرابع والخامس، وانعكاسات كل ذلك على المنطقة العربية، من تهديد للقيم الأخلاقية، والمواطنة الصالحة، والضبط الاجتماعي؛ بسبب ما أحدثته تلك الثورات والتغيرات من انفتاح ثقافي، وأزمات اقتصادية، وتعصب دينى، وعنف، وغياب للعدل، وتعظيم لكل ما هو مادى، والتوجه نحو قيم الاستهلاك وإهمال قيم الإنتاج، وعدم احترام الخصوصية الفردية، مما أدى إلى انتشار الصراع داخل الفرد وبينه وبين الآخرين، وضعف الصمود النفسي، واهتزاز قيم الأفراد، ودفع المجتمع نحو إعادة تنظيم أولوياته، والأفراد إلى إعادة النظر في تحديد أهدافهم وسبل إشباع حاجاتهم، الأمر الذى أدى في فترات معينة إلى إفراز سياسات بلا مبادئ وتجارة بلا أخلاق، وثروة بلا عمل، وتعليم بلا تربية، وعلم بلا ضمير، وعبادة بلا تضحية، واستهلاك بلا ترشيد، وجهد بلا قداسة، وأفراد بلا هوية، وشيوع قيم التعصب والتطرف والعنف ورفض الآخر. 

ومن هنا ظهرت أهمية بذل الجهود الكافية واتخاذ الإجـراءات الملائمة لرعاية الكفاءات المعنية بتربية المواطنة الصالحة وترسيخ القيم الأخلاقية وتحقيق الضبط الاجتماعى وفهم التحديات المحلية والإقليمية والعالمية والعمل على مواجهتها، هذا بالإضافة إلى أن إصلاح المجتمعات البشرية وتقدمها لا يتحقق فــي ظل غياب القيم الأخلاقية التي تدعم العدالة وفرص التمكين وتكوين مواطن واعٍ بنظام الحكم في مجتمعه، وبأهم قضاياه ومشكلاته، وبقيم الحرية والمساواة والعدالة والحقوق والواجبات، ويتحمل مسئولية اختياراته وأفعاله، مواطن يسعى لزيادة إنتاجه وترشيد استهلاكه، ويفضل المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. 

وتستند المواطنة على أسس وثوابت، منها: الوطن ككيان سياسي، والدستور كمصدر لسائر القواعد القانونية، والمواطنون، ومؤسسات المجتمع التي تؤدى وظائف اجتماعية، والحرية والولاء والانتماء كمظهر من مظاهر المواطنة ومن عوامل قوتها، والعدل المدعوم بسلطة القانون فى الحقوق والواجبات بما يضمن المحافظة على التنوع ويؤدى إلى دمج كل أفراد المجتمع في هوية واحدة بصرف النظر عن معتقداتهم أو إثنياتهم وعرقياتهم، وفى هذا السياق تتمثل أهمية المواطنة لكل من الفرد والمجتمع في كونها تحدد هوية المواطنين التي تميزهم عن غيرهم خارج حدودهم، وتُشعرهم بمكانتهم، كما تُحدد لهم حقوقهم وواجباتهم داخل بلدانهم، وتعزز الروابط بينهم، وتوحدهم أمام التحديات المشتركة، وتَدفع جهودهم جميعًا نحو خدمة الوطن، والتضحية من أجله، والدفاع عن مصالحه، والعمل على استقراره. 

ويمكن إجمال القيم الإيجابية التى يجب ترسيخها في النشء والشباب في قيم: الولاء والانتماء الوطنى، والنظام، والتعاون، والتسامح، والمبادأة، والإيجابية، والقناعة، والادخار، وترشيد الاستهلاك، والحرية، والعدل، والديمقراطية، والأمن، واحترام الآخر.. وتعد التربية القهرية والفقر من أهم الأسباب التي تؤثر سلبًا على ترسيخ هذه القيم وتربية المواطنة الصالحة وإحداث الضبط الاجتماعي، فبينما تسعى التربية الصحيحة إلى إظهار طاقات الفرد، يؤدي القهر إلى قتلها، وبينما تهدف التربية السليمة إلى بناء الشخصية السوية المتكاملة يؤدي الاضطهاد إلى إضعاف الشخصية واضطرابها، كما أن الفقر أيضًا بما يسببه من انتشار للأمية والمجاعات وسوء التغذية والبطالة ونقص التوظيف والإسكان، وعدم ملاءمة الخدمات، يجعل أفراد المجتمع أكثر استياء وأقل استعدادا للتعاون، ويساعد على انتشار الاضطرابات والتباعد والبغضاء، ومن ثم تشتت الأسر وتفكك المجتمع، وتراجع القيم الأخلاقية وغياب المواطنة الصالحة والضبط الاجتماعي.. ( التكملة في المقال القادم)

وزير التربية والتعليم والتعليم الفني الأسبق