جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

هل الأحاديث هى ثلاثة أرباع الدين؟

بمناسبة أن ولى العهد فى المملكة السعودية تحدث بجرأة عن مرتبة الحديث فى التشريع الدينى، وبمناسبة أن شيخ الأزهر وافقه حينًا، ثم تراجع على مضض بعد حين، خاصة وقد سبق له أن أبدى تصريحًا عجيبًا جعل من الحديث الشريف ثلاثة أرباع الدين، وبذلك أصبح القرآن «المركز الرئيسى للرسالة» هو ربع الدين فقط! ولأن كتاب البخارى نال قداسة عبر مئات السنين بين المسلمين، لذلك فإننى كباحث فى هذا المجال يجب أن أفتح الحديث عن الحديث، وأن أكتب ما وصلت إليه فى هذا الشأن، وسأكتب ما وصلت إليه عبر عدة مقالات إلى أن يشاء الله.

ولكى أريح وأستريح أقول إننى لا أكذب البخارى ومسلم وغيرهما من رواة الأحاديث، ولكننى فى ذات الوقت لا أصدقهما، فما أثبتاه فى كتبهما يخضع عندى للبحث والدراسة، ولذلك قد يصح عندى بعض ما أثبتاه، وقد لا يصح البعض، وكل ما فى كتب الأحاديث ينبغى أن يخضع لدراسات علمية جديدة لنقف على حقيقة نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم، الكتاب الذى آخذه كله وأصدقه كله وأتعبد لله به كله هو القرآن الكريم، فهو الذى قال الله عنه «لا ريب فيه»، أما ما عدا ذلك ففيه ريب، فالقرآن كتاب إلهى كامل، أنزله الله الكامل، والكامل لا يعتريه نقص أو نسيان، ولكن ما قصة البخارى وأصحابه إذن؟

هم من رجال الأمة فى القرون الأولى، نفتخر بأنهم وضعوا علمًا يضمن صحة الأخبار التى وصلت إليهم من الأمم التى سبقتهم فى أزمنة لم تكن فيها وسائل الكتابة والطباعة والتسجيل والتصوير متاحة لهم، ولكنهم مع ذلك بشر، لم يكن أحدهم كاملًا، ولم يثبت أحدهم فى كتابه نصوصًا كاملة، لذلك يجب أن تكون تلك الكتب التى أفنوا أعمارهم فيها ناقصة، القرآن إذن هو الكتاب الكامل، والوثيقة الإلهية التامة، وينبغى أن يكون كذلك، أما كتب البخارى وأصحابه فهى وثيقة بشرية، ولأنها كذلك فينبغى أن يرد عليها النقص، فإذا أسبغنا عليها الكمال نكون قد جحدنا كمال القرآن وجعلنا علم البشر موازيًا لكمال الله، وهذه أكبر جريمة عقائدية يرتكبها مسلم ضد دينه.

والآن إذا سألنا أى عالم من علماء الحديث فى القرن الحالى أو عدنا لما قاله علماء الحديث فى القرون السابقة، سنجده وقد اتفق مع مقالتى هذه، فلا يوجد عاقل يوازى بين القرآن وغيره، بل إن كتاب البخارى تعرض للنقد عبر العصور الماضية، ووصل عدد الأحاديث الذى انتقده العلماء عند البخارى أكثر من مائة وعشرة أحاديث، ويزيد عند البعض إلى أكثر من المائتين، بل إن بعض أحاديث صحيح مسلم لا يقبلها البخارى، وبعض أحاديث صحيح البخارى لا يسلم بها الإمام مسلم! وتستطيع أن تقول إنه مع تطور علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد ثم العلوم التجريبية يمكننا أن نستخرج مئات الأحاديث من البخارى وأصحابه، نقسم ونحن مطمئنون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يكون قد قالها كوحى من الله سبحانه، وإن كان قد قالها جدلًا، فإنها من أقواله البشرية التى يعبر فيها عن نفسه لا عن دين الله.

ولكن أين وجه الخلاف؟ لا أريد أن يكون حديثى للمتخصصين الباحثين الدارسين فقط، ولكننى أريده حديثًا عامًا. لذلك فإننى سأتحدث عن المتفق فيه لا المختلف فيه، والمتفق فيه أن علماء الحديث بعد مائتى عام من وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وضعوا اهتمامهم الأكبر بمن قام برواية الحديث فلان عن فلان عن فلان عن صحابى شهد الرسول عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإذا صحت سلسلة الرواة وصحة عدليتهم وحفظهم صح الحديث عندهم، أما متن الحديث فيأتى فى المرتبة الثانية، فلو كان مستغربًا أو مخالفًا للقرآن فلا ضير، فالمهم أن من رووا الحديث هم من الثقات الذين لم نجرب عليهم كذبًا، لذلك لنا أن نضرب أخماسًا فى أسداس فى حديث «الوائدة والموءودة فى النار إلا أن تتوب الوائدة فيغفر الله لها»، فلتقل ما تشاء وحاول أن تبحث عن تبرير ليتفق الحديث مع المنطق، ولتصرخ بأعلى صوتك بآيات القرآن «وإذا الموءودة سُئلت بأى ذنب قتلت»، ولكن سيظل هذا القول حديثًا عند العلماء شاء من شاء وأبى من أبى، كل ما سيفعله العلماء هو محاولات من عندهم لتبرير أن الموءودة فى النار، فيقول بعضهم إن الله علم أن هذه الموءودة إذا كتب الله لها الحياة ووصلت إلى سن التكليف سترتكب ذنوبًا تدخلها النار! وسيقول البعض إن هذه هى موءودة الكفار والمشركين، فهى ستكون فى النار فى كل الأحوال! وستظل التلفيقات تخرج من قرائحهم ليظل الحديث عندهم صحيحًا.

وعلى ذات النسق سيحدث نفس الأمر فى أحاديث قتال الناس حتى يدخلوا الإسلام، لن يجدينا أن نقول لهم إن هذه أقوال لا يمكن أن ننسبها للرسول صلى الله عليه وسلم، وسيقسمون هم إن الرسول قالها طالما أن البخارى اعتمدها فى كتابه، لن يستمع لك أحد منهم لو قلت إن الصحابة رووا الحديث بالمعنى، لا باللفظ، لذلك اختلفت ألفاظ الحديث الواحد عشرات المرات، حتى إن بعض الروايات تبدلت فيها المعانى من كثرة تغيير الكلمات، ولن يستمع لك أحد لو قلت لهم إن الصحابة لم يكتبوا الأحاديث نقلًا عن الرسول، لأن الرسول نهاهم عن ذلك، وسيبذل أهل الحديث جهدهم لإثبات أن الصحابة خالفوا أمر الرسول وكتبوا خلفه الأحاديث! ثم إذا سألتهم: وأين ما كتبوه إذن؟ لن تجد جوابًا إلا تأكيدات بأن عبدالله بن عباس كتب فى ألواحه عشرات الآلاف من الأحاديث وكان يضع هذه الألواح على جمله فينخ الجمل من حمله، فإذا قلت لأهل الحديث: مرحى مرحى! أين نجد هذه المخطوطات العباسية، أهى فى مكتبة الكونجرس أم فى مكتبة الفاتيكان؟، سيقولون لك إنها بادت واندثرت، فإذا قلت لهم: وأين ألواح عبدالله بن عمرو؟ رموا فى وجهك نفس الإجابة، فإذا قلت لهم سنصدقكم، ولكن مؤدى وجود كتابة للحديث فى عهد الرسول أن يكون أحد التابعين قد نقل حديثًا عن طريق ما قرأه فى هذه الألواح، وهو الأمر الذى لم يحدث أبدًا، فتكون مسألة كتابة الصحابة لأحاديث فى زمن الرسول هى خرافة تناقض نهى الرسول عن كتابة الحديث.

فإذا كان الحديث قد تم نقله جيلًا بعد جيل عن طريق المشافهة وبالمعنى لا باللفظ، إلى أن كتب رواة الأحاديث ما وصل إليهم، فإن هذا سيؤدى حتمًا إلى غياب أشياء كثيرة يستقيم بها علم الحديث، منها مثلًا ما المناسبة التى قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث، فكلنا يعلم أسباب التنزيل لآيات القرآن، هذه آيات عن بدر وتلك عن أُحد وهذه عن فتح مكة وأخرى عن مؤتة، وهذه عتاب للرسول بسبب كذا أو كذا، فإذا كانت الأحاديث تنزيلًا فما أسبابها؟ لم ترد لنا مناسبات الأحاديث إلا فى قلة قليلة متعلقة بالنسك التعبدية، أما الغالبية فغامضة غموضًا يستحيل منه أن نخرج من ظلماته بمعنى واضح إلا إذا ضربنا طرائق الغيب.

ثم بعد ذلك ما التفرقة بين الحديث الذى وحيه من عند الله ولفظه من عند الرسول، وبين أقوال الرسول العادية التى يتحدث بها بين الناس كباقى البشر؟ ثم ما السنوات التى قال فيها الرسول، صلى الله عليه وسلم أحاديثه؟، نعم يوجد فى كتب الأحاديث مثل ذلك، ولكن بشكل مضطرب، فبعضهم مثلًا يقول عن الإسراء والمعراج إنه كان قبل البعثة، والبعض يقول إنه كان فى السنة الأولى، وهكذا سيختلفون بشكل ممجوج فى سنة الإسراء حتى إن قلمك لن يتوقف عن الحصر إلا إذا أصابك التعب، ونفس الأمر فى حديث الإفك ستجد عشرات الروايات عن السنة التى وقعت فيها، والسن التى تزوج فيها الرسول السيدة عائشة وكم كان عمرها، لن تجد قولًا واحدًا فى هذا الأمر، هذا بعض من كل ولا يزال فى الجعبة الكثير.. فإلى مقال آخر إن شاء الله.