جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«الدستور» تنشر النص الكامل لأخطر كتب عبدالمتعال الصعيدى

عبدالمتعال الصعيدى
عبدالمتعال الصعيدى

الحرية الدينية فى الإسلام هذا الكتاب طُبع لأول مرة عام ١٩٥٥، وهو «دُرة» كتابات عبدالمتعال الصعيدى، وهذا لأن مضمونه يحوى جوهر مشروعه الذى جاهد فيه لتفعيل واستمرارية باب الاجتهاد، وتجديد علم أصول العقيدة، وتحديث آليات الدعوة والمواجهة والنقد، فضلًا عن أهمية القضية التى تناولها، ألا وهى: تجديد فقه الحدود، والحكم على المرتد، تلك القضية التى ما زالت أصداؤها تتردد فى كتابات المحافظين والمجددين على حد سواء.

وعبدالمتعال الصعيدى «مُجدد كبير»، ولد فى السابع من مارس عام ١٨٩٤، بمحافظة الدقهلية، وبدأ رحلته من «كُتاب» القرية ثم انتقل إلى إحدى المدارس الأولية ومنها إلى المدارس الابتدائية النظامية ثم الجامع الأحمدى بطنطا- إحدى منارات المعاهد الأزهرية- ثم القسم العالى بالمعهد.

وأظهر «الصعيدى» نبوغًا مبكرًا أدهش كل من عرفوه، وقد أظهر تأثرًا بدعوة محمد عبده لإصلاح الأزهر وتجديد الفكر الدينى، وأعُجب بفلسفة ابن رشد، لا سيما محاولة توفيقه بين الحكمة العقلية والنصوص الشرعية.

وفى عام ١٩١٨ رحل إلى القاهرة لاجتياز امتحان العالمية... وبدأت من هنا رحلة المفكر التجديدى العظيم، فشرع فى تقديم كتابه «نقد نظام التعليم الحديث فى الأزهر الشريف»، غير أن ظروف ثورة ١٩١٩ حالت بينه وبين ذلك.

عكف «الصعيدى» بعدها على مطالعة كتب التاريخ والفلسفة واللغة والأدب والفقه والحديث والتربية وطرق التعليم الحديث، وقد مكنته سعة معارفه من اصطناع منهج مغاير لرفاقه الأزهريين، وراح يؤلف مصنفات على هذا المنحى الجديد الذى يُعوّل على الفهم قبل الحفظ، واستنباط المعلومات من الأمثلة، وبسط الآراء عن طريق المناقشة، والمحاورات العلمية أثناء إلقاء الدرس... وكان أن أثرى المكتبة المصرية والعربية بكتابات فى منتهى الأهمية، وذخرت حياته بعشرات المعارك الأدبية والفكرية حول قضايا الأدب وتاريخه وعلوم البلاغة والفصاحة والإعجاز البيانى للقرآن والوحدة الإسلامية وسيرة النبى وحقيقة الأصولية الإسلامية، وتجديد علم الكلام وفقه الحدود والحب العذرى فى الإسلام.

وهذا الكتاب كان واحدًا من هذه المعارك، فهو بالأساس مناظرة بين الشيخ عبدالمتعال الصعيدى والشيخ عيسى منون، أثبت فيها الأول أن أصول الشريعة الإسلامية لم تكن قط مناهضة للحرية الإنسانية ولا معادية لحرية البوح والعقيدة.

فلقد حفل النصف الأول من القرن العشرين بعشرات المساجلات والمناظرات والمحاولات النقدية حول العديد من القضايا بين الجامدين من شيوخ الأزهر من جهة، وكان عيسى منون- عضو لجنة كبار العلماء- واحدًا منهم، وبين المحافظين المستنيرين من المجددين من جهة ثانية، وغلاة المستشرقين من جهة ثالثة، والمتشبعين بالثقافة الغربية من جهة رابعة.

أما كيف بدأت هذه المناظرة؟.. فالقصة أن الشيخ عيسى منون اعترض على اجتهادات الشيخ الصعيدى، التى كان يطرحها على صفحات مجلة السياسة الأسبوعية منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى، والكتاب- الذى نحن بصدده- فى مجمله لا يخرج عن نطاق وقائع مساجلة كلامية بين هذين الشيخين.

ويذهب عبدالمتعال الصعيدى فى مقدمة كتابه إلى أن التجديد والاجتهاد من السنن التى فطر الله عليها العقل، وصرح بأن الهدف الذى يرمى إليه من نشر هذا الكتاب هو إثبات أن الحرية الدينية مكفولة شرعًا، وهى شرط من شروط الإيمان، وهى ملجأ فى الوقت ذاته للمتشككين والمرتابين فيما يعتقدون، ويتضح ذلك فى قوله «وبعد، فهذا الكتاب يحوى اجتهادًا دينيًا خطيرًا على صغر حجمه، ويبين أن الحرية الدينية فى الإسلام عامة، فى دعوة غير المسلم إليه، وفى دعوة من أسلم ثم ارتد».

تعالوا معًا نقرأ ما قاله عبدالمتعال الصعيدى.. وهى كلمات وإن كُتبت منذ عقود فإنها لا تزال صالحة القراءة الآن ربما أكثر من أى وقت مضى.

إبطال إكراه المرتد على الإسلام

 

تسويغ مخالفة الإجماع على قتل المرتد على تقدير ثبوته

المشهور بيننا أن المرتد عن الإسلام يستتاب أولًا، ثم يقتل إن لم يتب، وهناك قول غير مشهور بأنه يستتاب أبدًا ولا يقتل، وقد اخترت فى كتابى «اجتهاد جديد فى آية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)» هذا القول الأخير، وإن لم يكن مشهورًا، لأنه أقرب إلى ما جاء به الإسلام وسبق به غيره من حرية الاعتقاد، فرد علىّ الشيخ عيسى منون بالجمود على القول المشهور، ولم يكفه جموده على هذا القول، بل حاول أن يسُد الطريق على من يريد مخالفته بادعاء الإجماع عليه، ومحاولة إنكار أن هناك قولًا بأن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل وهذا إمعان منه فى الجمود.

وسيكون ردى عليه أولًا ببيان أن من حقى مخالفة هذا الإجماع على تقدير ثبوته، وثانيًا بإثبات أن هناك مذهبًا بأن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل، وثالثًا بإثبات ما ذهبت إليه من أن المرتد لا يكره على الإسلام بقتل ولا باستتابة، وإنما يُدْعى إلى الإسلام بما جاء فى الدعوة إليه، من الأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن.

فأما أن من حقى مخالفة ذلك الإجماع فمن وجوه:

 

الخلاف في حجية الإجماع

أولها: أن الإجماع لم يتفق على حجيته، فقد ذهب بعض النظامية من المعتزلة والشيعة أنه محال فى ذاته، وفى طريق العلم به لو سُلّم إمكانه فى ذاته، وفى نقل العلم به إلينا لو سلم إمكان العلم به، والجمهور هم الذين يذهبون إلى حجية الإجماع، ولهم ردودهم على من خالفهم فى حجيته، وإنى أرى أن الإجماع حجة فيما لا يمكن الخلاف فيه، كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وأنه ليس بحجة فيما يمكن الخلاف فيه، كالمسائل التى لم تعلم من الدين بالضرورة، وهى التى لا يؤدى الخلاف فيها إلى هدم ركن من أركان الإسلام، كمسألة المرتد، فإن عصيانه بردته معلوم قطعًا، وكذلك عقابه عليها فى الآخرة، والخلاف فى هذا يؤدى إلى هدم أساس من أسس الإسلام، فلا يمكن قبول الخلاف فيه أصلًا، وأما كونه يعاقب فى الدنيا بقتل أو حبس ليرجع إلى الإسلام، فمما يمكن الخلاف فيه، لأنه لا يؤدى إلى إبطال أساس من أسس الإسلام.

وثانيها: أن الفرد من الصحابة كان يشذّ على إجماعهم إذا ظهر له وجه يرى أنه على حق فيه، فكان الصحابة يتسامحون فى هذا معه، ولا يحاولون إكراهه على موافقتهم، كما نحاول الآن إكراه من يخرج على ما ندّعيه من الإجماع بوجه من الوجوه، فلا نناقشه فى هذا الوجه، بل نسُد الطريق أمامه بدعوى الإجماع فيه، لأننا لو ناقشناه لكان هذا تسليمًا منا بأن له وجهًا فى مخالفة هذا الإجماع، مع أنه لا يجوز له مخالفته بحال من الأحوال، وممن خالف إجماع الصحابة على، رضى الله عنه، فقد أجمعوا على خلافة أبى بكر، رضى الله عنه، فخالفهم فيها، ومكث على خلافه شهورًا عدة، فتركوه على خلافه إلى أن ذهب من نفسه إلى أبى بكر فبايعه، وكذلك تخلف عنهم فيها سعد بن عبادة، سيد الخزرج من الأنصار، وتخلف أيضًا فى بيعة عمر، رضى الله عنه، وأصرّ على هذا إلى أن مات، وممن كان ينفرد بقول وحده عبدالله بن عباس وأبوموسى الأشعرى وأبوهريرة وعبدالله بن عمر، رضى الله عنهم، فقد أجمع الصحابة على القول «بالعَوْل فى الإرث» عند تكثُّر السهام عن المال، فخالفهم فيه ابن عباس، وكذلك أجمعوا على نقض الوضوء بالنوم، فخالفهم فيه أبوموسى الأشعرى، وكذلك أجمعوا على جواز الصوم فى السفر، فخالفهم فيه أبوهريرة وعبدالله بن عمر، وإذا جاز لهؤلاء الصحابة مخالفة إجماع من عداهم، فليجز لى فى مسألة المرتد مخالفة ما يدعيه الشيخ عيسى منون من الإجماع على قتله بعد استتابته، إذا أمكننى إثبات هذا بالدليل، وبينت أن لى وجهًا أقوى فى مخالفتى لهذا الإجماع.

 

مخالفة الإجماع على العمل بالمذاهب الأربعة فقط

 

وثالثها: أن الشيخ عيسى منون وأمثاله كانوا يرون أن الإجماع انعقد على العمل بالمذاهب الأربعة وتحريم العمل بغيرها، وقد نقل هذا الإجماع فى كثير من الكتب التى يعتمد عليها الأزهريون، وكانوا يذكرون لنا هذا ونحن طلاب فى المعاهد الدينية، ويحرمون النظر فى غيرها لانقطاع سندها، حتى بدا لأولياء الأمور العمل فى مسائل من الطلاق ونحوه بغير المذاهب الأربعة، فوافقهم بعض علماء الأزهر على هذا، وكان جمهورهم ينكر مثل هذا فى أول الأمر، ثم استكانوا وسكتوا عنه، بل كثر فيهم من يفتى بأن «الطلاق الثلاث» بلفظ واحد أو فى مجلس واحد يقع طلقة واحدة، مع أن أسلافهم حكموا بسجن ابن تيمية لأنه أفتى بهذا، وخالف به إجماع المذاهب الأربعة، وكذلك كثر فيهم من يفتى بأن الطلاق المعلق على شرط أو صفة لا يقع، مع أنه خلاف المذاهب الأربعة التى كانوا يدعون انعقاد الإجماع عليها، ويحرمون العمل بغيرها، ويحذرون من النظر فى كتب غير كتبها، وها هو ذا الشيخ عيسى منون ينظر فى كتاب «المحلى» لابن حزم، وهو من غلاة الظاهرية، ومن أشد الناس طعنًا فى الأئمة الأربعة، فلا يمنعه هذا من النظر فيه، ولا من الاستناد إلى بعض أقواله، مع أنه لو فعل هذا قبل نحو خمسين سنة لم يغفر له، بل ما أظن أنه كان يستبيحه لنفسه، لأنهم كانوا يحرمون النظر فى مثل هذه الكتب، كما يُحرمون النظر فى كتب الفلسفة، وإذا صار الخروج على إجماع تحريم العمل بغير المذاهب الأربعة غير منكر الآن فليجز لى أيضًا الخروج على ما يدعيه الشيخ عيسى منون من الإجماع على قتل المرتد بعد استتابته.

 

جمود فتاوى الأزهر بالجمود على الإجماع

ورابعها: أنى لا أرضى لنفسى بالجمود على ذلك الإجماع الأزهرى فقد ضاعت فيه شخصية الأزهر، حتى صار يردد ما ألفه فى الكتب الأزهرية، ويجمد على ما ألفه من الأقوال المشهورة، ثم يدّعى الإجماع عليها ليقطع على الناس النظر فيها، حتى أفقد أولياء الأمر الثقة بفتاويه، فاستباحوا لأنفسهم مخالفتها، ورأوا أنها لا تمثل حكم الدين الصحيح، وإذا مضى الأزهر فى هذا فلا يدرى إلا الله ما يخبئه له المستقبل، فلا يمكننى أن أمضى مع أولئك الجامدين من الأزهريين، لأجنى على الأزهر بما يجنون عليه بجمودهم، فإنى أبرُّ بالأزهر من أجنى عليه بذلك، وإن أوذيت فى هذا منهم بما أوذيت وستريهم الأيام أن ما آذونى فيه كان هو الطريق السليم لحفظ مكانة الأزهر ولإبعاده عما يقاسيه الآن من إهمال، ولا يدرى إلا الله متى يعرفون ذلك، فقد توالت النُّذر وهم يغطُّون فى جمودهم، ولا يرون أن الأخذ بما دعاهم إليه أنصار التجديد هو السبيل لنجاتهم.

ومن غريب أمر أولئك الجامدين أنك إذا أخذت تنبههم إلى سوء عاقبة ذلك الجمود قالوا لك: ماذا يُراد منا؟ أيراد منا أن نجازف فى الدين، كما يجازف الشيخ عبدالحميد بخيت؟ -أستاذ بالأزهر له آراء صاخبة- فنأمر المسلمين بالفطر فى رمضان ليستعدوا للجهاد ونحكم بالاكتفاء فى الصلاة بركعة مع تحريك الحواجب بها، وهذا ما لا يكون، وإن أصابنا ما أصابنا فى سبيل المحافظة على الدين.

لا يا سادة، لا يراد منكم هذا أصلًا، وإنما يراد إذا فسد الوقف الأهلى ولا علاج لفساده إلا بالأخذ بقول غير مشهور فيه من أقوال الفقهاء ألا تجمدوا على القول المشهور بعدم جواز حله، وتجمعوا على هذا وترعبوا من يجرؤ على مخالفتكم فيه، حتى تعيا الحكومة بأمر ذلك الوقف، ولا تجد سبيلًا لعلاج فساده إلا الأخذ بذلك القول الذى لم يشتهر فيه، وتضرب بإجماعكم على فتواكم عُرض الحائط، وترى أنكم عقبة فى سبيل ما تريده من الإصلاح فتعمل على التخلص منكم، والاستغناء عنكم بغيركم، وكذلك يراد منكم فى مسألة المرأة وغيرها من المسائل المشكلة التى تجمدون دون حلها، ولا تَدَعون غيركم يسعى فى حل لها، فهذا ما يراد منكم فى الدين، ولا يراد منكم أن تفعلوا كما يفعل الشيخ عبدالحميد بخيت وغيره من المجازفين.

 

مسئولية الاجامدين فى مجازفات بخيت وغيره

 

 

والحق أنكم المسئولون عن هذه المجازفات منه ومن غيره، لأنكم بعد أن أخذ الأزهر بالنظام الحديث أبيتم إلا أن تربُّوه وأمثاله فى أحضان الجمود، وأبيتم إلا أن يسير النظام الحديث فى الأزهر على منوال النظام القديم، فلم تسلكوا به سبيل التجديد الصحيح، ليُخرّج لكم مجددين يفقهون معنى التجديد، ولا يجازفون فى أمر الدين، كما يجازف الشيخ عبدالحميد بخيت، لأنه لم يتربّ فى أحضان التجديد الصحيح، كما تربى المجددون من أمثال الشيخ محمد عبده وغيره، فظن أن التجديد هو المجازفة بمخالفة المشهور من غير دليل، واستحلى أن يتحدث الناس عنه فى الجرائد والمجلات ولو على سبيل التهكم بما يجازف به، فكان فى هذا أضر على الدين من ذلك الجمود الذى تربى فى أحضانه ولم يعرف السبيل الصحيح للتخلص منه، لأن الله لم يرزقه من يوجهه إلى ذلك، فوقف مذبذبًا بين الجمود والتجديد، وشر الناس أولئك المذبذبون الذين لا يهتدون إلى طريق يسيرون فيه، يتخبطون خبط عشواء، ولا يستقرون هنا أو هناك.

 

 

 

اضطراب الاجماع في مسالة المرتد

 

وخامسها: أن دعوى الإجماع فى مسألة المرتد مضطربة، لأن بعضهم يدّعى أن الإجماع على قتل المرتد ومنهم صاحب المغنى، وبعضهم كابن حزم يدعى أن الإجماع على إكراه المرتد بالقتل أو الحبس، وهذا الاضطراب يضعف هذه الدعوى، فقد أدخل ابن حزم من قال بأن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل فى ذلك الإجماع، مع أن غيره جعله مخالفًا لإجماعهم على قتل المرتد، ولا شك أنه لا تكون هناك قيمة لذلك الإجماع بعد دخول من قيل إنه مخالف له فيه، لأنه إذا ساغ له مخالفته واعتبارها فى إجماع تدخل فيه، فإنه يسوغ لى مخالفته بمذهبى فى المرتد أيضًا.

 

 

 

 

دخول إكراه المرتد فى أية «الا إكراه في الدين»

 

 

وسادسها: أن إكراه المرتد على الإسلام بالقتل أو الحبس داخل قطعًا فى عموم قوله تعالى «لا إكراه فى الدين» لأن الإكراه فى الدين كما يكون فى الابتداء يكون فى الدوام، وكما لا يصح الإكراه على الدين فى الابتداء لأن الإسلام الذى يحصل به يكون فاسدًا، كذلك الإكراه على الدين لا يصح فى الدوام، لأن الإسلام الذى يحصل به يكون فاسدًا وإذا كان من محاسن الإسلام أنه جاء بحرية الاعتقاد، فلا يدعو الناس إليه بوسائل الإكراه، بل يدعوهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإنه يكون من محاسنه أيضًا أن يأخذهم بعد إسلامهم بهذا الأصل، فلا يحيد عنه فى الابتداء والدوام، ولا يأخذهم إذا ارتدوا عن الإسلام إلا بالحكمة والموعظة الحسنة، وإلا بالجدال بالتى هى أحسن، والخلاصة أن قوله تعالى «لا إكراه فى الدين» وقعت فيه كلمة «إكراه» نكرة فى سياق النفى، ووقوع النكرة فى سياق النفى من صيغ العموم، فيدخل فيه إكراه المرتد على الإسلام كما يدخل فيه إكراه الكافر الأصلى عليه، وقد سبق تحقيق أن هذا العموم باقٍ على حاله فى الكافر الأصلى من غير نسخ ولا تخصيص، فلا يكون هناك ما يمنع من دخول إكراه المرتد على الإسلام فيه من هذه الناحية، بأن يكون شأنه فيه مثل شأن الكافر الأصلى، وقد سبق أنه لا إجماع فى إكراه الكافر الأصلى، فليكن المرتد مثله فى هذا أيضًا.

 

 

 

تأويل الاحاديث الواردة في قتل المرتد

 

نعم، يبقى ما استند إليه الجمهور فى قتل المرتد من قوله، صلى الله عليه وسلم، «من بدل دينه فاقتلوه» وقوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» ومن حديث اليهودى الذى أسلم ثم ارتد فأمر معاذ بن جبل بقتله، وذكر أن قتله قضاء الله ورسوله، وكذلك ما ورد من محاربة أبى بكر أهل الردة.

فأما حديث «من بدل دينه فاقتلوه» فليس على عمومه عند بعض من يُعتد بهم من الفقهاء، فقد استثنى منه الحنفية المرأة إذا ارتدت، لأن النبى، صلى الله عليه وسلم، مر على امرأة مقتولة فأنكر قتلها وقال «ما كانت هذه لتقاتل» وحينئذ يكون عدم قتل المرتدة عند الحنفية لأنها لا تقاتل، فيكون قتل المرتد عندهم لأنه يقاتل، ولا يكون السبب فى قتله ارتداده بل قتاله، وعلى هذا يمكننا أن نخصص هذا الحديث «من بدل دينه فاقتلوه» بالمرتدين المقاتلين، فيكون قتلهم جزاءً لهم على قتالهم لا على ارتدادهم.

وكذلك الأمر فى حديث «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» لأن الحنفية يحملونه على غير المرأة المرتدة، كما سبق، ونحن نبنى عليه ما ذهبنا إليه من تخصيصه بالمرتد المقاتل، فيكون شأنه فى هذا كشأن الحديث السابق.

وكذلك المرتد الذى كان يهوديًا فأسلم ثم ارتد، لأن الظاهر من حال من كان يرتد فى ذلك الوقت أن يقاتل، فقد كان المسلمون فى حالة حرب، وكان من يرتد ينضم فعلًا إلى من يقاتلهم من الكفار، أو ينتهز الفرصة للانضمام إليهم فيكون قتله لئلا ينضم إلى من يحاربهم، ولحالة الحرب ظروفها الخاصة بها، فلا يصح أن يقاس عليها ارتداد من يرتد فى حال السلم، لأنه فى حال السلم لا يخشى منه قتال، بل يكون المسلمون فى حالة أمن، فلا يؤثر فيهم شخص ارتد من بينهم، وهو عاجز عن أن يلحق أذى بهم.

وكذلك المرتدون الذين حاربهم أبوبكر، لأنهم ارتدوا وأعلنوا العصيان فوجب قتالهم ليدخلوا فى الطاعة، ويؤدُّوا ما فرض عليهم من الزكاة للدولة، ليستقر الأمر فى جزيرة العرب، ولا يعودون إلى ما كانوا عليه من الفوضى فى الجاهلية، وبهذا يكون قتالهم لبغيهم، لا لارتدادهم.

ويجوز أيضًا تخصيص ذلك كله بالمرتدين من العرب، لأنه أريد جمعهم على دين واحد، أو لأنهم كانوا مقاتلين، لأن بلاد العرب كانت فى ذلك الوقت فى حالة حرب، فكان من يرتد من العرب ينضم إلى من يقاتل المسلمين منهم، أو ينتهز الفرصة للانضمام إليهم، ولا يؤثر فى هذا قتل ذلك اليهودى الذى أسلم ثم ارتد، كما توهم الشيخ عيسى منون، فإنه كان من يهود العرب، لأنه كان من أهل اليمن، كما يفيده الحديث الوارد فيه، وكانت اليهودية قد انتشرت قبل الإسلام فى أهل اليمن، حتى دان بها ملوكها من حمير وغيرها.

 

 

ثبوت قولى بعدم إكراه المرتد

 

 

وبهذا استقام لنا ما ذهبنا إليه من أن المرتد لا يُكره على الإسلام بقتل أو حبس، وإنما ندعوه إلى العودة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ونجادله فى ذلك بالتى هى أحسن، فإن عاد إلى الإسلام نجا من عقاب الله تعالى فى الآخرة وإن لم يعد لم ينج منه، ولا شك أن ما ذهبنا إليه من ذلك أقرب إلى سماحة الإسلام مما يدعى الشيخ عيسى منون الإجماع عليه، وقد أثبتناه بالدليل الراجح، فليكن هناك إجماع بعد هذا على خلافه أو لا يكن، لأننا أمام نصوص يستند إليها الإجماع الذى ادّعاه، وقد تصرفنا فيها بأحسن من تصرف هذا الإجماع فيها، فليكن الحكم على تصرفنا فيها بما فيه من توجيه حسن أو خلافه، لا بموافقته لإجماع أو مخالفته له.

 

 

 

 

إثبات القول بأن المرتد بستتاب أبدًا ولا يقتل

وأما أن هناك مذهبًا بأن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل فهو كما قلنا، وإن حاول الشيخ عيسى منون فى إنكار وجود هذا المذهب ما حاول، والحقيقة أننا نقلنا هذا القول عن «المحلى» لابن حزم، وقد نسبه إلى طائفة مرة ونسبه إلى قوم مرة أخرى، وقد نسبه صاحب «المغنى» إلى النخعى، وهذا نصه، وقال النخعى: «يستتاب أبدًا وهذا يفضى إلى أنه لا يقتل أبدًا وهو مخالف للسنة والإجماع».

فابن حزم يروى عن طائفة أو قوم أنهم قالوا فى المرتد: يستتاب أبدًا ولا يقتل، فيكون كل من الاستتابة وعدم القتل مرويًا عنهم، وهو فى هذا لم يتعرض لذكر النخعى أصلًا ولم يقتصر فى روايته على «يستتاب أبدًا»، ثم يعلق عليها بأن هذا يفضى إلى أنه لا يقتل أبدًا كما فعل صاحب المغنى، وبهذا لا يكون هناك وجه لمؤاخذة الشيخ عيسى منون له بأنه اغتر بظاهر كلام النخعى، لأنه أولًا لم يرد فى كلامه ذكر للنخعى أصلًا، ولأنه ثانيًا روى عن تلك الطائفة القول بالاستتابة أبدًا وعدم القتل، ولم يرو عنها الشق الأول فقط، ويستنتج منه الثانى ليكون قد اغتر بظاهر كلامها.

وقد توهم الشيخ عيسى منون أن هذا القول للنخعى فقط، وقد ورد عنه بالشق الأول فقط «يستتاب أبدًا» ثم عثر على قول ابن حجر فى فتح البارى: «وعن النخعى يستتاب أبدًا» كذا نقل عنه، والتحقيق أنه فيمن تكررت منه الردة، وكذلك عثر على رواية للبيهقى فى «السنن الكبرى» عن النخعى أنه قال: «يستتاب كلما رجع فخطأ صاحب المغنى فى فهمه لقوله (يستتاب أبدًا) أنه يفضى إلى أنه لا يقتل أبدًا، لأنه اغترار منه بظاهر هذه الرواية وهو غير معقول، لأنه لا معنى للاستتابة الدائمة إذا لم يترتب على عدم الإجابة شىء، وحمله على أنه يستتاب أبدًا كلما رجع، كما حققه ابن حجر فى «فتح البارى» وكما رواه عنه البيهقى فى «السنن الكبرى»، ويكون معناه أنه إذا ارتد يستتاب فإن لم يتب قتل، وإن تاب ترك، فإن رجع وارتد ثانيًا يستتاب، فإن لم يتب قتل، وإنت تاب ترك، وهكذا، ثم ذكر أن الدليل الصحيح الواضح على أن مراد النخعى هذا ما ذكره البخارى فى صحيحه تعليقًا بصيغة الجزم فقال: «وقال ابن عمرو الزهرى وإبراهيم أى النخعى: تقتل المرتدة ومن يقول بقتل المرتد يقول بقتل المرتدة من باب أولى».

ولا يخفى فساد ما ذكره من أن ظاهر ما روى عن النخعى غير معقول، لأنه لا معنى للاستتابة الدائمة إذا لم يترتب على عدم الإجابة شىء، فإن من قالوا بالاستتابة الدائمة لا يمنعون إلا قتل المرتد، ويقولون بإكراهه على الإسلام بالحبس، فعدم إجابته يترتب عليها عندهم حبسه، فلا يصح ما ذكره من أن الاستتابة الدائمة لا يترتب على عدم الإجابة فيها شىء وبهذا ينهار أيضًا ما ذكره ابن حجر، لأنه مبنى على استبعاد القول بالاستتابة الدائمة لمثل ما ذكره الشيخ عيسى منون أو نحوه، على أن تأويله لكلام النخعى بما ذكر ابن حجر هو الذى لا يعقل، لأنه يخرج به عن أصل النزاع فى المرتد.

وقد دلّس الشيخ عيسى منون فى رواية البيهقى فى «السنن الكبرى» عن النخعى، لأنه لم يروها على أصلها ليخفى ما ذكره البيهقى من ضعفها، وهذه هى رواية البيهقى فى «السنن الكبرى»: «أخبرنا أبوسعيد بن أبى عمرو حدثنا بحر بن نصر، حدثنا عبدالله بن وهب، أخبرنى سفيان الثورى، عن رجل عن عبدالله بن عبيد بن عمير أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استتاب نبهان أربع مرات وكان نبهان ارتد، قال سفيان أو قال عمرو بن قيس عن رجل عن إبراهيم- يعنى النخعى- إنه قال: المرتد يستتاب أبدًا كلما رجع، قال ابن وهب: وقال لى مالك ذلك أنه يستتاب كلما رجع»، هذا منقطع، وروى من وجه آخر موصولًا وليس بشىء، فهذه هى رواية البيهقى على أصلها، وهى رواية ضعيفة عنده لأنها منقطعة، وقد ذكر أنها رويت من وجه آخر موصولة، وأنه ليس بشىء، فالذى روى ذلك عن النخعى رجل مجهول، ومن المعلوم أنه لا يحتج برواية المجهول.

وكذلك لا يفيد الشيخ عيسى منون ما روى عن النخعى أنه قال بقتل المرتدة، لأن العينى فى شرح البخارى ذكر عنه نقولًا مختلفة فى قتل المرتدة، وإن ضعّف الرواية عنه بعدم قتلها.

على أننا لو سلمنا له أن النخعى لم يذهب إلى ذلك القول فيبقى غيره ممن ذكر ابن حزم فى «المحلى» أنهم طائفة أو قوم، والقوم صريح فى الجمع، أما الطائفة فهى كما قال صاحب القاموس «الطائفة من الشىء القطعة منه، أو الواحد فصاعدًا أو إلى الألف أو أقلها رجلان، أو رجل فيكون بمعنى النفس، ولكن إذا كان ابن حزم قد ذكر مرة أن هذا القول لطائفة، ومرة أنه لقوم، فإنه يتعين أن المراد من الطائفة ما يراد من القوم، وهو الجمع، وبهذا لا يكون ذلك القول للنخعى وحده».

وهذا إلى أنَّا نجد ابن حزم يذكر أدلة لأصحاب ذلك القول على ما ذهبوا إليه من عدم قتل المرتد والاقتصار على استتابته، وبهذا نكون فى الواقع أمام قول مثل سائر الأقوال التى قيلت فعلًا، وأمام أدلة يذكرها أصحابه لإثباته، ولا مانع من أن يكون قولًا للنخعى رجع عنه، ورجوعه عنه لا يؤثر فيه بشىء، كما لم يؤثر رجوع الشافعى عن مذهبه القديم فى تمسك بعض أتباعه به، وقد يكون قوله هذا هو المتأخر.

 

تورط الشيخ عيسى منوم في إنكاره

 

وبهذا كله لا يكون ما حاوله الشيخ عيسى منون من إنكار وجود هذا القول إلا تورطًا منه لا نظير له، ولا غرو، فإن الغلو فى الجمود يوقع فى مثل هذا التورط، بل يوقع فى أشد منه تورطًا، والعجيب أن الشيخ عيسى منون قد اطلع على ما ذكره ابن حزم فى هذا القول من أوله إلى آخره، وهو كلام طويل ينبه من لا يتنبه إذا لم يكن فى مثل جموده، ولا بد من ذكر ما أطال به ابن حزم فى الكلام على ذلك القول، لأنه أطال فى ذكر أدلته والرد عليه، ونحن نخالفه فى حكمه عليه، فلا بد أن نذكر كلامه فيه أولًا، ثم نعقَّب عليه بالرد ثانيًا.

 

 

 

كلام ابن حزم في القول بعدم قتل المرتد وفى غيره

قد نقل ابن حزم الخلاف فى مسألة المرتد أولًا فقال: «كل من صح عنه أنه كان مسلمًا متبرئًا من كل دين حاشا دين الإسلام ثم ثبت عنه أنه ارتد عن دين الإسلام وخرج إلى دين كتابى أو غير كتابى أو إلى غير دين، فإن الناس اختلفوا فى حكمه، فقالت طائفة: لا يستتاب. وقالت طائفة: يستتاب. وفَرَّقَت طائفة بين من أَسَرَّ ردته وبين من أعلنها. وفرقت طائفة بين من وُلد فى الإسلام ثم ارتد وبين من أسلم بعد كفره ثم ارتد. ونحن ذاكرون إن شاء الله تعالى ما يَسَّر الله تعالى لذكره، فأما من قال: لا يستتاب فانقسموا قسمين، فقالت طائفة: بقتل المرتد تاب أو لم يتب، راجع الإسلام أم لم يراجع، وقالت طائفة: إن بادر فتاب قُبلَت منه توبته وسقط عنه القتل، وإن لم تظهر توبته أنفذ عليه القتل. وأما من قال: يستتاب فإنهم انقسموا أقسامًا، فطائفة قالت: نستتيبه مرة، فإن تاب وإلا قتلناه.

وطائفة قالت: نستتيبه ثلاث مرات، فإن تاب وإلا قتلناه. وطائفة قالت: نستتيبه شهرًا، فإن تاب وإلا قتلناه. وطائفة قالت: نستتيبه ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتلناه. وطائفة قالت: نستتيبه مائة مرة، فإن تاب وإلا قتلناه. وطائفة قالت: يستتاب أبدًا ولا يقتل، فأما من فرق بين المُسر والمعلن، فإن طائفة قالت: من أسر ردته قتلناه دون استتابة ولم تقبل توبته، ومن أعلنها قبلنا توبته. وطائفة قالت: إن أقر المُسر وصَدق النية قبلنا توبته، وإن لم يقر ولا صدق النية قتلناه ولم نقبل توبته. قال هؤلاء: وأما المعلن فَتُقْبَل توبته. وطائفة قالت: لا فرق بين المُسر والمعلن فى شىء من ذلك. فطائفة قبلت توبتهما معًا، أقر المُسرَ أو لم يقر، وطائفة لم تقبل توبة مُسر ولا مُعْلن.

 

 

استدلال القائلين بعدم فتل المرتد بمت رور عن عمر، ورد ابن حزم عليه

ثم ذكر ابن حزم أدلة من ذهب إلى أن المرتد يستتاب ثم يقتل إن لم يتب، ثم ذكر بعدها أدلة من ذهب إلى أنه يستتاب أبدًا ولا يقتل، فقال: «وأما من قال يستتاب أبدًا دون قتل فلما حدثنا عبدالله بن ربيع، حدثنا عبدالله بن محمد بن عثمان، حدثنا على بن عبدالعزيز، حدثنا الحجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا داود- هو ابن أبى هند- عن الشعبى عن أنس بن مالك أن أبا موسى الأشعرى قتل حُجَيْنَة الكذاب وأصحابه، قال أنس: فقدمت على عمر بن الخطاب فقال: ما فعل حجينة وأصحابه ؟ قال: فتغافلت عنه ثلاث مرات، فقلت: يا أمير المؤمنين، وهل كان سبيل إلا القتل؟ فقال عمر: لو أتيت بهم لعرضت عليهم الإسلام، فإن تابوا وإلا استودعتهم السجن. وروينا عن طريق عبدالرازق عن معمر قال: «أخبرنى محمد بن عبدالرحمن عن أبيه قال: قدم مجزاة بن ثور أو شقيق بن ثور على عمر يبشره بفتح تُستَر، فقال له عمر: هل كانت مغربة تخبرنا بها؟ قال: لا، إلا أن رجلًا من العرب ارتد فضربنا عنقه. قال عمر: وَيْحكم، فهَلَّا طيَّنتم عليه بابًا وفتحتم له كُوَّة فأطعمتوه كل يوم منها رغيفًا وسقيتموه كوزًا من ماء ثلاثة أيام، ثم عرضتم عليه الإسلام فى الثالثة، فلعله أن يرجع، اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أعلم»، وقد ساق ابن حزم هذا الخبر بعد الخبر الأول لإبطال استدلالهم به على أن المرتد لا يقتل، لأنه يبين ما أطلق فى الأول من الاستيداع فى السجن، وأنه إلى ثلاثة أيام ثم يقتل إن لم يَتُبْ، فليس على ظاهره من الاستيداع فى السجن من غير قتل ومن غير تقييد بمدة، بل إلى أن يتوب ولو بقى فى السجن ما يشاء الله أن يبقى.

ثم عاد ابن حزم بعد هذا إلى ذكر القائلين بذلك القول ضمن القائلين بالاستتابة فقال: «ومنهم من قال بالاستتابة أبدًا وإيداع السجن فقط، كما قد صح عن عمر مما قد أوردنا قبل»، ثم عاد إلى ذكرهم ضمن القائلين بإكراه المرتد، فقال: «إن الأمة مجمعة على إكراه المرتد، فمن قائل يُكْرَه ولا يُقْتَل، ومن قائل يُكْرَه ويُقْتَل».

 

 

 

كونهم قومًا واستدلالهم بترك قتل المنافين ورد ابن حزم عليه

 

ثم عاد ابن حزم بعد هذا إلى ذكر ما لأصحاب ذلك القول من أدلة عليه فقال: قال قوم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عرف المنافقين، وعرف أنهم مرتدون كفروا بعد إسلامهم، وواجهه رجل بالتجوير، وأنه يقسم قسمة لا يراد بها وجه الله، وهذه رِدَّة صحيحة، فلم يقتله، قالوا: فَصَحَّ أنه لا قتل على مرتد، ولو كان عليه قتل لأنفذ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المنافقين المرتدين الذين قال الله تعالى فيهم: «إذا جاءك المنافقون» إلى قوله تعالى: «فهم لا يفقهون» (المنافقون ١-٣).

ثم قال فى الرد عليهم: «هذا كل ما احتجُّوا به، ونحن إن شاء الله ذاكرون كل آية تعلق بها متعلق فى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عرف المنافقين بأعيانهم، ومبينون بعون الله تعالى وتأييده أنهم قسمان: قسم لم يعرفهم قط (عليه السلام) وقسم آخر افتضحوا فعرفهم فلاذوا بالتوبة، ولم يعرف (عليه السلام) أنهم كاذبون أو صادقون فى توبتهم قط، فإذا بيَّنَّا هذا بعون الله تعالى بطل قول من احتجَّ بأمر المنافقين فى أنه لا قتل على مرتد، وبقى قول من رأى القتل بعد التوبة، وإما أنه لا يسقط بالتوبة، والبرهان على الصحيح من ذلك، فنقول وبالله التوفيق: قال الله تعالى: «ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر» إلى قوله تعالى: «فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين» (البقرة ٨-١٦)، فهذه أول آية فى القرآن فيها ذكر المنافقين، وليس فى شىء منها دليل على أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عرفهم، ولا على أنه لم يعرفهم، فلا متعلق فيها لأحد من أهل القولين المذكورين.

وقال الله تعالى: «يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم» إلى قوله تعالى: «إن الله بما يعملون محيط» (آل عمران ١١٨-١٢٠)، ففى هذه الآية دليل على أن هؤلاء القوم يمكن أن يكونوا معروفين، لأن الله تعالى: أخبرنا أنهم من غيرنا بقوله تعالى: «من دونكم» فإذ هم من غيرنا فممكن أن يكونوا من اليهود مكشوفين، وممكن أن يكون قوله تعالى عنهم: «قالوا آمنا» أى بما عندهم، وقد يمكن أيضًا أن يكونوا من المنافقين المظهرين للإسلام، وممكن أن الله تعالى أمر ألا نتخذهم بطانة إذا اطلعنا منهم على هذا، والوجه الأول أظهر وأقوى لظاهر الآية، وإذ كلتاهما ممكن فلا متعلق فى هذه الآية لمن ذهب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعرف المنافقين بأعيانهم، ويدرى أن باطنهم النفاق.

وقال الله تعالى: «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم» إلى قوله تعالى: «حتى يحكموك فيما شجر بينهم» (النساء ٦٠-٦٥)، وصح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، «ثلاث من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا: إذا حَدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإن صام وصَلَّى وزعم أنه مسلم»، فقد صح أن ههنا نفاقًا لا يكون صاحبه كافرًا، ونفاقًا يكون صاحبه كافرًا، فيمكن أن يكون هؤلاء الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت لا إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، مظهرين لطاعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عصاة بطلب الرجوع فى الحكم إلى غيره، معتقدين صحة ذلك، لكن رغبة فى اتباع الهوى، فلم يكونوا بذلك كفارًا بل عصاة، فإذا بَيَّن الله تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يُحَكمُوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما شَجَر بينهم، وجب أن من وقف على هذا فأبى وعَنَد فهو كافر، وليس فى الآية أن أولئك عندوا بعد نزول هذه الآية، فلا حجة فيها لمن يقول، إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عرفهم أنهم منافقون وأقرَّهم.١٩٦٦