جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الورش الأدبية.. الثقافة والمال

 

 

حتى السبعينيات لم يكن أحد فى مصر يسمع بالورش الأدبية التى غمرت وجه الحياة الثقافية الآن، إلا أن تلك الظاهرة التى كان يفترض أن تكون جزءًا من صناعة الثقافة ومن نظام تعليمى حر أمست جزءًا من صناعة التجارة.

ويكفى فى ذلك السياق أن تقرأ إعلانات تلك الورش التى تنبعث منها رائحة الربح بغض النظر عن أى شىء، وقد طالعت مؤخرًا إعلانًا كالتالى: «كتابة الرواية موهبة وخطوات، الموهبة عليك والخطوات علينا بـ(٩٩) جنيه فقط».

أى أنك بتسعة وتسعين جنيهًا فقط ستغدو روائيًا، فإذا اشتركت فى الورشة مرتين فستحصل على روائى مرة ثالثة مجانًا، معظم الورش يشرف عليها- مع كامل الاحترام- أشخاص لا تربطهم أدنى علاقة بالمجال الذى يتحدثون فيه، فلا هم أدباء أصحاب إنجازات أدبية سابقة ولا هم أكاديميون، وفى معظم الحالات لم يسمع أحد عنهم من قبل.

تتعثر الآن فى كل خطوة بورشة لتعليم المونتاج، وأخرى لتلقينك مبادئ الكتابة الصحفية، وثالثة لتعليمك القراءة السريعة، بحيث تنهى قراءة كتاب من ثلاثمائة صفحة فى أقل من ساعة، وقد رأيت إعلانات عن ورشة «كتابة المحتوى»! أى محتوى؟! لا تدرى المهم تدفع الاشتراك.

لا أكتب عن سقوط تلك الورش فى الجرى وراء المال بفرح، بل بأسى وأسف شديدين. وأحاول أن أقلب الأمر على وجوهه المختلفة، ذلك أننى من ناحية ضد الرقابة، خاصة الحكومية، على أى نشاط ثقافى، ومن ناحية أخرى أكاد أجد ضرورة لمتابعة نشاط تلك الورش بما يحمى المستهلك.

هل يمكن أن تتكون لجنة من الأدباء والفنانين للنظر فى جدارة المشرفين على تلك الورش؟ لجنة فى إطار المجلس الأعلى أو اتحاد الكتاب، لكن ليس تحت سيطرة تلك الجهات، لمنح تراخيص إقامة الورش بناء على كفاءة وقدرة مَن يتولاها؟

المخرج الكبير على بدرخان أعلن عن ورشة فى فن الإخراج السينمائى، وبالطبع فإن مخرجًا كبيرًا مثل بدرخان لا يحتاج إلى تزكية، ومع ذلك شفع الإعلان بأن «نقابة المهن التمثيلية» تمنح المتدرب شهادة بعد الانتهاء من الدورة، رغم أن اسم بدرخان بحد ذاته شهادة رفيعة.

بهذه المناسبة أذكر أننا عام ١٩٦٧ كنا نتردد على فيلّا قديمة فاخرة فى شارع قصر العينى يرجع بناؤها إلى عام ١٨٨٠، وقام الأديب يوسف السباعى بتحويلها لـ«دار الأدباء»، ما زالت الفيلّا قائمة لكنها أمست مثل دار أشباح. فى تلك السنوات البعيدة كانت لنا جلسات مع سيد القصة العربية، يوسف إدريس، الذى فاجأنا ذات مساء ونحن نحيط به على مقاعد متناثرة بقوله: «ما رأيكم أن أرتجل الآن مطلع قصة ثم أتوقف، ويواصل أحمد الحكاية ويتوقف من دون أن يتمها، ثم يلتقط يحيى الطاهر عبدالله الخيط ويستمر.. وهكذا»، ولم يكن أحد قد سمع فى مصر قاطبة بالورش الأدبية لكن خيال يوسف إدريس، وربما اطلاعه على الحياة الثقافية فى أوروبا، قاده إلى الفكرة التى انتشرت مؤخرًا وانتقلت للأسف من صناعة الثقافة إلى صناعة المال، حتى لم يبق سوى الإعلان عن «ورش أدبية لإصلاح ودهانات الموهبة».