جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

رجال الجنة.. حكايات خاصة من دفتر الشهداء

رجال الجنة
رجال الجنة

«لولاهم ما كنّا هنا».. إنهم الشهداء.. خير من فينا.. بدمائهم نعيش.. وبتضحياتهم نبقى.. لم يتأخروا عن أداء الواجب.. وكانوا أبناء مصر بحق. ومن هنا كان ضروريًا أن نوثق سيرتهم العطرة، وهو ما فعله الكاتب محمد نبيل فى كتابه «حكايات الولاد والأرض»، الذى صدر فى جزءين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. ويبرز الكتاب بطولات وتضحيات رجال الجيش والشرطة، تلبية لنداء الوطن والواجب، على ألسنة زوجاتهم وأمهاتهم وشقيقاتهم، وإن كانت القصص كلها من دفتر وجع مصرى كبير، لكنها تؤكد أن هذا الوطن كان وسيظل بخير ما دامت لأبنائه هذه الروح.

مصطفى عثمان: صلى العشاء فى المسجد قبل الشهادة 

على الرغم من أن الشهيد كان مقررًا له أن تكون خدمته فى كمين الفواخرية فى العريش فإنه فور علمه بأن زميله الأحدث منه سوف تكون خدمته فى كمين الصفا وهو الأخطر، مقارنة بكمين الفواخرية، قرر البطل التقدم بطلب لتبديل الأكمنة ليصبح المقر الجديد هو كمين الصفا، وهو كمين استشهاده. بعد غروب شمس ٢٥ يونيو قرابة الساعة التاسعة تقدمت سيارة مفخخة عليها عناصر إرهابية ترتدى الزى العسكرى، وهنا قرر الشهيد مصطفى عثمان التخلى عن حرم الكمين الخاص به والخروج منفردًا والتصدى للعناصر الإرهابية فى الخارج ليقلل عدد الضحايا. ونجح الشهيد مصطفى فى قتل إرهابى يرتدى حزامًا ناسفًا، قبل تمكنه من التفجير، إلا أنه أصيب برصاص إرهابى آخر، وعلى الرغم من إصابته الخطرة أكمل الشهيد تعامله مع الإرهابى، ولم يكتف بذلك بل فتح النار على العناصر الأخرى داخل السيارة المفخخة وأصاب وقتل عددًا كبيرًا منهم. وأكمل الضباط والجنود تعاملهم مع العناصر الإرهابية، وأتى وقتها أحد أبطال القوات المسلحة متنكرًا فى زى بدوى يقود سيارة ربع نقل ليتمكن من الدخول لساحة المعركة، وأثناء تبادل النيران مع الإرهابيين استطاع الخروج بالشهيد والمصابين. تحكى والدته عنه فتقول: «قبل استشهاده بدقائق أصر على صلاة العشاء، بمسجد الرفاعى، ثم مصادفة عقب خروجه من المسجد سألته سيدة المساعدة فأعطاها من فضل الله حسب شهادة أحد المجندين، وكان كرم الله الأكبر عليه فنال الشهادة التى طالما تمناها».                             

محمد هارون: أسد سيناء الذى أرعب «بيت المقدس»

كان لموته صدى كبير داخل «تنظيم بيت المقدس»، وكيف لا وهو الأسد الذى جعل اسمه بمثابة رعب يسرى فى صدورهم. استشهد محمد هارون فى الشيخ زويد أثناء تأدية عمله بتفكيك العبوات الناسفة مع قوات الأمن فى منطقة الجورة، وكان المقدم الشهيد قد تصدى لقرابة ١٧ هجومًا استخدم ضده كل شىء، وكان أسدًا باسلًا رابط الجأش، حتى أن الصحافة المصرية قالت: «إن كمين الجورة العسكرى هو من سيكتب نهاية تنظيم بيت المقدس بسيناء». ورغم أن الشهيد كان فى إجازة، إلا أنه لبى النداء وقطع إجازته ليتصدى للعبوة الناسفة بالمنطقة الخطيرة قرب مطار الجورة، واستشهد بمفرده وعاشت حملته العسكرية، وكانت إصابته تتمثل فى وجود جرح ١٥ سم بالشريان الرئيسى. أما عن وصيته فقالت شقيقته إنه قال: «أوصيكم إن مت أن يتم دفنى بسرعة، وأن يتم سداد ديونى التى تمثلت فى أقساط السيارة لدى بنك القاهرة، وإذا كان أخى أحمد هارون حاضرًا لموتى أن يصلى علىّ صلاة الجنازة، لأنه سيكون أكثر شخص حزين على وسيدعو بصدق».

محمود السيد عبدالفتاح: رأى فى المنام «لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا»

يحكى والد الرقيب شهيد محمود السيد عبدالفتاح هاشم عنه فيقول: «فى يوم ٢٦ يناير ٢٠١٤ رن جرس الهاتف ليخبرنى النقيب أحمد عبدالله باستشهاد ابنى، فقلت (الحمد لله وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلفنى خيرًا منها يارب العالمين)».

وعلم الأب أن استشهاد ابنه كان نتيجة لإطلاق نار كثيف من جماعة من التكفيريين من سيارة ربع نقل بمنطقة عيون موسى أثناء الاتجاه لنفق الشهيد أحمد حمدى، وقال عنه قائده: «لم أرَ صف ضابط مثل محمود فى خلقه وسرعة استجابته لأوامر قائده وقيامه بمهام عمله بكفاءة وإتقان، وشهد له زملاؤه بحسن الخلق وحضر قائد جنازته، وقال لوالده: (ليتنى أكون مثل ابنك الشهيد، ويشاء الله أن يستشهد قائده فى العام التالى)».

وقال والده إن ابنه كتب على الحائط قبل استشهاد «الله ولى الصابرين»، وحكى له ابنه عن حلمه الذى رآه قبل أيام معدودة من استشهاده «لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا».

وائل كمال: أوصى بدفنه مع قائده الروحى أحمد منسى 

كان الرائد وائل كمال فى دورية مع جنوده حين أمرهم بعدم الترجل من المدرعة فى مواجهة التكفيريين وهاجمهم بمفرده وقتل خمسة منهم، ولكن أصابه أحد القناصة بطلقة أسفل الصدر، ولم يتوقف النزيف حتى استشهد، وكانت هذه هى النهاية المتوقعة لرجل «ولد ليكون بطلًا».

تقول والدته: «كان يعتمد على نفسه منذ صغره، وفى حادثة كنيسة القديسين فى الإسكندرية كان ضمن قوات الدعم، وكان بارًا بى وبوالده».

أخفى الشهيد على أمه أنه يخدم بسيناء لعلمها أنها منطقة موبوءة بالتكفيريين، وكان يخبرها بأنه فى مرسى مطروح كى لا تنزعج وتخاف عليه، لكنه أخبر إخوته وأبلغهم بألا يخبروها.

كان البطل أحمد منسى والده الروحى، وبعد استشهاد «منسى» طلب نقله إلى نفس وحدته، فقد كان مسلحًا بفرق كثيرة فى مقاومة الإرهاب الدولى، وحصل على شهادة تقدير قبل استشهاده بستة أشهر.

تقول والدته: «فى اليوم السابق لاستشهاده حدثت محاولة استهداف لطائرة وزيرى الدفاع والشرطة، وعلى إثرها تم تمشيط المنطقة، وفى اليوم التالى كان هناك إرهابيون يركبون دراجة بخارية، وصعب التعامل معهم من المدرعة، فطلب من الجنود عدم النزول، وأمسك السائق بيده وقال له (متنزلش يا فندم)، ونزل وائل وتعامل مع الإرهابيين وأسقط منهم خمسة، لكن قناصًا غادرًا أصابه بطلقة، ونزل الجنود فأخبرهم بأنه بخير وبأنه ذاهب للقاء حبيبه».

وكان الرائد وائل قد أوصى بأن يتم دفنه مع قائده، وجاء شقيق الشهيد منسى يوم استشهاده لبيت الرائد وائل وتم دفن الجثمان مع قائده.

أم على باكية: «ربنا يصبرنى على فراقك يا عريس»

البطل الشهيد «على» ابن الجمالية بمحافظة الدقهلية، كان رفيق الشهيد منسى فى كمين البرث، وطلب الشهادة فنالها.

كانت والدته قد مات لها ستة أولاد قبله فقال لها: «وإيه يعنى لما يكونوا سبعة ويبقى السابع شهيد ياخد بإيدكم للجنة؟». تحكى الأم فتقول: «على ولدى قالى فى يوم من الأيام قبل استشهاده فى إجازته الأخيرة (ادعيلى يا أمى أكون شهيد)، قلت: (ليه يا بنى تحرق قلب أمك عليك)، يقولى: (يا أمى إنتى مات لك ستة من ولادك قبل كده، إيه يعنى لما يكونوا سبعة وسابعهم شهيد ياخد بإيدكم كلكم للجنة، يا أمى دا أنا حاكون شهيد فدا مصر كلها، شوفى إنتى بقى مصر أد إيه وتستاهل إيه مننا، ادعى يا أمى أنا مش أقل من اللى راحوا فدا البلد، يا أمى إنتى بتقولى على راجل، والنبى يا أما خلينى أروح راجل)».

وتضيف: «راح على زى ما هو عايز، عاش راجل وراح راجل، الكل بيحبوه حتى زمايله بيزورونى لحد دلوقتى، ويحكوا كل مرة حكاية شكل عن جدعنته معاهم وشهامته، واحد قالى (كان أى حد عنده ظرف ولا حاجة يبدل الخدمة مع على على طول وما يرفضش)، وشخص تانى يحكى لى عن شجاعته فى المداهمات وإنه ما بيخافش الموت، حتى إنهم حكوا لى عن يوم استشهاده مع الشهيد منسى، إنه موّت من التكفيريين يجى عشرة لوحده، وهو اللى وقف صامد يضرب فيهم علشان ما يدخلوش الكمين ياخدوا مصابين يعذبوهم أو ياخدوا شهداء ينكلوا بيهم، كان واقف زى الجبل يحمينا فى ضهره، وعلى الرغم من أنه كان مصابًا فى قدمه كان يعمل على إخلاء الشهداء والمصابين من زملائه، لحد ما أخد ٣٦ طلقة ويمكن أكتر فى كل جسمه لحد ما وقع على الأرض، وجه واحد من كلاب النار حاول يدخل الكمين افتكر إن على مات لكن على اتحمل على نفسه ومسك رجل الكلب وضرب فيه دفعة من البندقية الآلى بتاعته وموت الكلب ومنعه إنه يدخل للشهداء والمصابين، لحد آخر نفس كان ضنايا بيحب غيره ويحافظ على اللى حواليه زى ما كان فى وسطينا يحب إخواته أكتر من نفسه، راح ابنى يوم ٧ يوليو ٢٠١٧ مع الأبطال منسى ورجالته فى كمين البرث، زى ما هو عايز بالضبط، قالى يا أما ادعى لى أروح راجل، وفعلًا ربنا استجاب دعاه».

وتختم: «يا على، أمك فخورة بيك ورافعة راسى وسط الخلايق لإنك ضحيت بنفسك علشان زمايلك الجدعان وعلشان بلدك، إنت ما رضيتش تتجوز إلا لما تخلص جيشك وأنا خطبت لك بعد سنة ونص من جيشك، لكنك عايز تكون عريس لبلدك كلها.. ربنا يصبرنى يا عريس على فراقك».