جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المجدد المجهول.. كيف قدم عبدالمتعال الصعيدى«دليل تجديد الخطاب الدينى» قبل 50 عامًا؟

عبدالمتعال الصعيدى
عبدالمتعال الصعيدى

المشيخة خصمت راتبه وعزلته من مناصبه حيًا.. ومنعت طباعة ونشر كتبه ميتًا

عارض تطبيق الحدود وتنبأ بـ«ظهور جماعات متطرفة».. وهاجمه سيد قطب

شكك فى حديثىّ «من بدّل دينه فاقتلوه» و«الفرقة الناجية» بالأدلة.. وفسر تعدد المذاهب وخلافاتها بالحروب السياسية

تعدد الزوجات «مفسدة اجتماعية» والحجاب عادة لكن الرجال يفرضونه من باب الغيرة

٤٩ كتابًا مطبوعًا، و٢٠ كتابًا مخطوطًا، و٢٤ مقالًا بجريدة «السياسة»، و٣٨ مقالًا بـ«البلاغ»، وكلها مهداة إلى الأزهر، لكن من يبحث عنها كمن يضل طريق الهداية، ويفتش عن منشورات آثمة. 

تعيد المشيخة نشر تراثها، ومؤلفات مشايخها- مهما كانت تخاصم الزمن وتستبدل الرحمة بالزحمة، والثواب بالعقاب، والحب بالكراهية- فالنشر ليس مشروطًا بالاجتهادات العميقة، أو التجديد فى الدين، إنما بشعبية الشيخ وسط مريديه الأزهريين، وأغلبهم ترعرعوا على كتب دراسية تنهل من التراث، وتهاجم من يريد تنقيته، أو تفسيره ليساير العصر، بل تخفيه تمامًا ليصبح سرابًا.. كأنه لم يمرّ من هنا، لا درس بالأزهر ولا حاول تجديد دينه، ولا خاض حرب وجود كى يثبتَ أنه كان على صواب، وما يقوله ليس عبثًا بصحيح الإسلام، إنما هو إنعاش له، ولا إفسادًا للدين، إنما إصلاح لما خرَّبه الأوائل. 

 

كتاب العمامة المستنيرة

هل نقصد شيخًا بعينه؟ 

من يبحث يجد الآلاف، الذين جرأوا على الكلام، والذين لم يجرؤوا، لكن إنعاش سيرة الإمام عبدالمتعال الصعيدى يعيد له جزءًا مما كان يستحقه فى حياته لتخرج أعماله من أرشيف مكتبة الأزهر، حيث الأتربة تغطى الأغلفة، التى تتآكل من الرطوبة وعبث الفئران، وتشقّ طريقها إلى جمهور المسلمين، الذى لم يعرف «الصعيدى» إلا معرفة عابرة.. كأنه كان شيخًا عاديًا مرّ بالمشيخة، وخطب بالمساجد، وكتب كثيرًا، وكتاباته لم تعد تليق بالإسلام الآن، واختفى، رغم أنه قدّم دليلًا لتجديد الخطاب الدينى قبل أكثر من ٥٠ عامًا.

 

لم يكن عبدالمتعال الصعيدى أحد وجوه «إسلام السوق» الذى يرفع مشايخ كعمرو خالد إلى السماء لأنه بحث عن الأثرياء وفصّل لهم دينًا على مقاسهم، يدارى به تطرفه السابق، حين كان رفيقًا أليفًا لوجدى غنيم، ولا الوجه الآخر الذى يمثله الشيخ كشك وامتداده الأكثر ابتذالًا، عبدالله رشدى، بعضلاته المفتولة، التى تدارى وحشًا خرج من أروقة الأزهر لينهش العباد.. هو شيخ مجدد فقط.. ما يقوله لا يرضى المتشدّدين، ولا يغرى الحائرين، ولا يطبطب على قلوب المذنبين إلى الحد الذى يجعلهم ملائكة يستحقون العطف، لا التوبة. 

كانت نقاشاته الحادة مع أساتذته بالأزهر تخصم من راتبه وتؤخر ترقيته وتعزله من مناصبه، ومعاركه مع رجال الدين المتشددين، أو «المحافظين» على صفحات الجرائد والمجلات تنتهى بحرمانه من البقاء فى التاريخ.. فالتاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط، إنما من يملكون قرار طبع الكتب والمقالات وتوزيعها مرة أخرى.

أبحث عن كتبه، فلا أجدها حتى يقع بيدى كتاب «العمامة المستنيرة»، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، للباحث الدكتور أحمد محمد سالم، ويتناول سيرته وأفكاره وخطواته ومحاولاته للتجديد فى ١٧٣ صفحة.

الباحث أحمد سالم

 

كل صفحة من الكتاب تشهد أنه خرج من ظلال الشيخ محمد عبده ليصنع مدرسة أخرى.. امتداد أكثر انفتاحًا على الدنيا من «شِبَّاك الدين» الواسع، الذى لم يترك بابًا إلا ونظر إليه بسماحة وبصيرة ليحقق مصلحة الناس.

اكتسب «عبده» الشهرة لأنه كان الأول والأسبق إلى التجديد، ولأنه جلس على مقعد «مفتى مصر» يومًا ما، فامتلك القدرة على نشر أفكاره بختم رسمى، وتنفيذ ما يراه بقوة القانون والدولة، التى ساندته فى عصر أكثر تصالحًا مع الأفكار الغريبة.. كان طلاب المدارس يخرجون ويسافرون إلى آخر الدنيا ليعودوا بعقليات الخواجات، الدين بالنسبة لهم وسيلة لإصلاح الأمور.. وليس غاية تنقطع الدنيا من أجلها.. فكانت أفكار محمد عبده تنتشر على أجنحة آلاف الرسل، لكن هذا الرجل جاء فى زمن صعب، حين اختفى التوجه إلى الحرية والتنوير، وأصبح الدين تعصبًا ورغبة فى تكدير البشر لا تسيير أمورهم وتهوين حياتهم، فأمسك الشيخ عبدالمتعال الصعيدى بهذا الخيط ليصيغ رؤيته لتجديد الفكر الدينى. 

ليست الفرقة الناجية وحدها هى التى أضعفت المسلمين، فتنظيم الإخوان أضعفهم أيضًا.

تقف جماعات العنف والإرهاب على أرضية دينية هشة، وهى تقتل أو تذبح أو تدعو لقيام ما يعرف بـ«دولة الخلافة»، ولم يكن فى زمن عبدالمتعال الصعيدى سوى الإخوان يحملون هذا الوهم، ويجهّزون سيوفهم ومدافعهم لتحقيقه ولو على جثث كل البشر، مع أن الدولة التى يعيشون بها إسلامية، و«يجب أن يعلم الداعون إلى الحكومة الدينية أن الحكومة القائمة– عام ١٩٥٠– حكومة إسلامية، وأنه لا معنى لمطالبتهم بذلك مع قيام هذه الحكومة، لأن صبغتها فى جملتها صبغة إسلامية، وهى كذلك فى العرف الدولى حكومة إسلامية، لأن رئيسها الأعلى مسلم، ودينها الرسمى هو الإسلام، ولأن الشريعة الإسلامية تعدّ الأصل الأصيل لكل تشريع فى مصر، وقد جاء دستورها مقررًا لهذا الأصل»، وفق تحليله فى كتاب «من أين نبدأ؟».

لم يستسلم «الصعيدى» للهجمات المرتدة التى قادها شيوخ زملاء أو أقطاب إرهابية كانت تخطط للتخلص منه، صوته يزعجها، وكتاباته ستبقى طويلًا لتصبح دليل إدانة وحكمًا بإعدام فكرتهم الأسيرة، يطاردهم حتى بعد أن ينقطع ذكرهم، وتنتهى حياتهم، وتسقط أوهامهم وأكاذيبهم، والأكذوبة الكبرى التى يروّجونها للوصول إلى إقامة دولة الخلافة، أن الإسلام يحرِّم وجود حكومات متعددة. 

يمسك «الصعيدى» بذلك الخيط الرفيع ليؤكد أن الإسلام لا يمنع قيام حكومات متعددة، وإذا قامت لا يطلب منها إلا أن تكون متحابة لا متعادية.

هل تريد دليلًا؟

يوضح: «تعدّد الحكم فى الإسلام قال به بعض العلماء استنادًا إلى اقتراح الأنصار على المهاجرين حين اختلفوا قبل الاتفاق على أبى بكر (رضى الله عنه)، أن يكون من المهاجرين أمير ومن الأنصار أمير، ولو كان هذا مما لا يجيزه الإسلام ما اقترحوه».

هل نزيد؟

مات الرسول ولم يحدد شكلًا للحكم، ترك تحديده لاختيار المسلمين.

أسأل: لماذا؟.. لأجد الإجابة حاضرة لدى الشيخ عبدالمتعال الصعيدى، يقول: «حتى لا يكون هناك حرج عليهم فى اختيار شكل الحكم الذى يلائم ظروفهم وأحوالهم، فلا يهمّ فيه إلا أن يقوم الحكم فيه على أساس الشورى والعدل، ومتى قام على هذا الأساس كان حكمًا إسلاميًا صحيحًا، سواء كان القائم به ملكًا أم خليفة أم رئيسًا». 

تحكم المهادنات والمواءمات العلاقات والمؤسسات حتى يصل الشخص إلى ما يريد. 

لم يخضع «عبدالمتعال» لهذا المبدأ، كان يمكن أن «ياكل عيش» ويبتعد عن عش الدبابير بالأزهر، لكنه قرر أن يواجه، ففى عام ١٩٣٧، بدأ نشر مقالاته حول تقنين الشريعة الإسلامية وتطوير نظام الحدود وتكفير المجتمع ومفهوم الجهاد وطبيعة الحكم الشرعى.

يقول إنه «من الصعب تطبيق الحدود، والتشدد سيقود إلى مزيد من التشدد وظهور جماعات متطرفة»، ليفتح على نفسه النار، ويدخل فى معركة مع شياطين الإرهاب. 

كان أبو الأعلى المودودى وسيد قطب فى المقدمة، يهاجمان وجهة نظره التى تحوّلت إلى نبوءة تحققت بعد عشرات السنين، حين أنبت التشدد تنظيمات دينية متطرفة وجماعات مسلحة تخطط لتطبيق ما تدّعى أنه شرع الله بالقوة، والمفاجأة أن «قطب والمودودى» كانا على رأسها فى مصر وشرق آسيا. 

لم تنتهِ المعركة بخطاب شكر، خضع «الصعيدى» لأكثر العقوبات قسوة فى بيته الأزهرى، تشكلت لجنة لإجباره على تغيير رأيه دون أن يغير قناعاته، وانتهت بتقاعده عام ١٩٥٩.

تحارب طيور الظلام الصعيدى، ولا تجد من يتعاطف معها، فتكتب فصلًا جديدًا من مآسى علم الكلام «أصول الدين»، الذى بدأ ونما تحت شجرة الصراعات والخلافات السياسية العملاقة بجذورها الممتدة فى عمق الإسلام، ولم يكن من صاغوه يعرفون أن الفتنة الكبرى ستتغطى بغطاء الدين، وكل فرقة ستقدّم قراءة تتوافق مع مذهبها السياسى، لتصبح المذاهب الدينية عششًا تخرج منها طيرٌ أبابيل، ومن هنا انطلقت آلاف الحروب والمعارك الصغيرة. 

يحكى «الصعيدى» أنّ «علم التوحيد نشأ بين الخصام والعداء، ثم شبّ وشاخ بينهما حتى تأصلت فيه جذورها، فكانت أول مسألة أثيرت فيها هى مرتكب الكبيرة، أثارها الخوارج والسيوف تلمع فى أيديهم، والخصام بينهم وبين جمهور المسلمين قد بلغ غايته حتى كانوا يراعون دم الذمى ولا يراعون دم أخيهم المسلم، لأنهم كانوا يرون أن مرتكب الكبيرة كافر مستباح الدم». 

يضرب «الصعيدى» مثلًا بحديث واحد كان كفيلًا بتدمير المسلمين لقرون، دون التفتيش وراء أصله ورواته، ومدى قوته، وهو حديث «الفرقة الناجية» الذى يقول: «ستفترق أمتى إلى اثنين وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة».. والفرقة الواحدة، كما يسخر «الصعيدى» فى كتاب «الحرية الدينية فى الإسلام»، هى «أهل السنة عند أهل السنة، والمعتزلة عند المعتزلة، والشيعة عند الشيعة والخوارج عند الخوارج، فاشتد الخلاف بينهم، وأثار بينهم العداوة والخصام حتى تفرقت به كلمة المسلمين وضعف أمرهم، وتغلب عليهم أعداؤهم».

ولأن كتب الأشعرية هى التى تدرّس حتى الآن فى علم التوحيد، اختفت المذاهب الأخرى وضاعت سيرتها، فلم يعد هناك مجال لذكر أحد سواهم. 

كان الأشعرية قُساة على غيرهم من المذاهب، وأخذوا يكيلون لهم الاتهامات، ويحذفون اجتهاداتهم من التاريخ.. حتى أصبح وجود الآخرين عدمًا.. بدا ذلك فى مدونات «الملل والنحل» الأشعرية، التى أسَّست أن النجاة للأشاعرة وأهل السنة، وكفّرت وشوّهت وسفّهت آراء الفرق الأخرى، ولا تزال تلك الفكرة مسيطرة على بعض مشايخ الأزهر، فيرى عبدالمتعال الصعيدى، فى كتاب «الحرية الدينية»، ضمن محاولاته لتحرير الأزهر من أفكاره القديمة، أنّ «الفرقة الناجية عند الشيخ عيسى ممنون، وأمثاله من الأزهرية، هى فرقة الأشعرية وما عداها من الفرق الإسلامية مخطئون آثمون، وهم جامدون على هذا كل الجمود فيقلدون الأشعرية فى كل ما تذهب إليه فى العقائد، ويتعصبون لها، ولو بدا لهم فيها شىء من الضعف، وقد بدا لبعضهم شىء من هذا فلم يسوغ لنفسه أن يخالفها منهم».

لم تنتهِ رحلة عبدالمتعال الصعيدى مع علم الكلام.. فما يراه أن العلم ليس مشكلة بحد ذاته، أفاد المسلمين فى إنقاذ دينهم من هجمات أصحاب الديانات الأخرى بالعقل والمنطق.. لكن الغارات السياسية قصفته، فـ«استباحت تزييف الأسانيد الشرعية، ولا سيما الأحاديث النبوية الشريفة لتبرر مذاهب الفرق، وفتحت الباب على مصراعيه أمام البدع والشطط والجنوح على صلب العقيدة»، ولم يكن الخلاف دينيًا- فى رأيه- إنما نتيجة طبيعية للمحاولات المستمرة للخلاف السياسى، الذى فرق كلمة المسلمين، وجعل بعضهم يعادى بعضًا على غاياته من أمور الدنيا، كالوصول إلى الحكم ومناصبه والظفر بالرياسة ومظاهرها، وما إلى ذلك من وسائل الجاه الذى يطغى على الدين، لأنه لا يصل إليها إلا بتفرق الكلمة وانقسام المسلمين إلى طوائف متعادية». 

 

يصل عبدالمتعال الصعيدى إلى ما هو أبعد من ذلك.. يبالغ المتشدّدون فى تدينهم الظاهرىّ وتشددهم، حتى إنّ من يرفض «دولة الخلافة» يعتبروه مرتدًا.. فهل يعتبر قتله إجباريًا؟

فى كتاب «الحرية الدينية فى الإسلام»، يؤكد- بالقرآن- أن المرتد لا يقتل، فـ«الإسلام أول دين يتيح الحرية المطلقة للإنسان، وكفل للمسلمين أن يعارضوا الرسول دون أدنى خوف، وبالتالى فإن التضييق على الناس فى باب الحرية الفكرية لا يتفق وصحيح الإسلام، لأن التعسف فى الحرية هو صناعة بشرية خالصة لا علاقة لها بالدين، فالإسلام لم يغلق باب الاجتهاد على الناس، والمجتهد لا إثم عليه فيما اجتهد فيه ولو أخطأ طريق الصواب». 

حتى الحديث الذى يدافع به المتشدّدون عن فتاواهم بقتل المرتد لا يعنى شيئًا.. ولكن كيف؟

يتناول «الصعيدى» حديث «من بدل دينه فاقتلوه» بكثير من الشك، فهو «من أحاديث الآحاد التى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، كما أنه يخالف النص التشريعى الأول فى الإسلام وهو القرآن الكريم، ويخالف ما تواتر عليه من عدم قتل المرتد، وهو ما يعنى أن قتال المرتد لا يصح إلا إذا حارب المسلمين». 

الدعوة إلى قتل المرتد ليست فقط افتئاتًا على حق الله فى حساب عباده، إنما دعوة إلى تعطيل «التفكير والعلم» اللذين يعتبران من الأسس التى لا يصح أن يغادرها مسلم، أو يتركها لتغادره. ووفق الصعيدى، «لا يعقل أن يدعو الإسلام إلى التفكر والعلم ثم لا يعطى من يدعوه إلى هذه الحرية العلمية، حتى يكون هناك سلطان عليه لغير العقل والعلم، ولا يخشى فى هذا بأس حاكم أو رجل دين، وإنما يجتهد فى العلم فيطلق له السراح ليسير إلى الأمام ولا يرجع إلى الوراء بل وينهض بأمته فى دنياها ودينها».

يقف الرئيس عبدالفتاح السيسى بقاعة احتفالات كلية الشرطة عام ٢٠١٧، يقول إن ٩٠٠ ألف زواج يتم سنويًا فى مصر، لكن ٤٠٪ من الزيجات تنتهى بالانفصال بعد ٥ سنوات، وكى يحمى المجتمع من التفكك، يطرح فكرة وجود قانون يلغى الطلاق الشفهى، ويجعل الانفصال أمام مأذون وبأوراق رسمية حتى يمنح فرصة للناس لمراجعة نفسها. لا تمسّ تلك الفكرة هوى لدى المشايخ، ويبدو أن شيخ الأزهر واحد منهم، حتى إن الرئيس قال كلمته الشهيرة: تعبتنى يا فضيلة الإمام.

ومن يعود إلى عبدالمتعال الصعيدى بوصفه شيخًا أزهريًا رفيعًا، يجد بين يديه وفى كتبه حلًا لكل مشكلاتنا وخلافاتنا ومعاركنا من أول «دولة الخلافة» حتى غرف النوم، لكن هناك من يريد أن يتجاهله، ويجعله رجلًا عابرًا مر على الأزهر كأى عمامة قضت فترتها وانتهت.

يرى «الصعيدى» أن رعاية مصلحة العباد مسألة جوهرية حتى لا ينفصل الدين عن مشكلات الناس، فالدين، بالنسبة له، وسيلة لتبسيط وتأمين حياتهم، لا لتدميرهم وتشريد أطفالهم، فكان ينطلق من مفهوم «المصلحة» فى تجديد الفقه، وإنعاش الفتاوى كى تصبح مناسبة للزمن، وظروف الناس. 

هو ابن المدرسة الإصلاحية، التى لا ترى عيبًا فى تكييف الدين على سعادة البشر، وإمامه هو الشيخ محمد عبده، فلم يكن غريبًا أن يطلق فتاوى لإباحة التصوير والتمثيل وحجته أن «القرآن قدّم فى عرضه صورًا تمثيلية جسّدت الكثير من قصص الأنبياء والرّسول من باب العظة والتعليم»، وتقييد تعدد الزوجات، الذى أصبح «مفسدة اجتماعية، وعلى الحاكم تحريمه، إذ إن الحكم الشرعى بإباحة التعدّد كان من قبيل إعلاء المصلحة العامة للمجتمع وللأمة، وليس لإطلاق الشهوات والمتاجرة بالنساء»، وفق قوله، والإفتاء بأن الحجاب عادة وليس فريضة: «نزل فى حق زوجات الرسول، والشريعة تركت أمر الحجاب بين الرجل وزوجته، والكثير من الرجال يجبرون زوجاتهم وبناتهم على ارتداء الحجاب من باب الغيرة، وليس بهدف التديّن».

وكان رأيه، الذى تنطلق منه تلك الفتاوى، أن «القاعدة الأصولية التى تنص على جلب المصلحة ودفع المفسدة هى التى جعلت فكرة عالمية الإسلام فكرة واقعية يسهل تطبيقها فى كل زمان ومكان»، فأطلق فتاوى جديدة حول الحرية الدينية والحدود الإسلامية، وتقييد الطلاق، ومنح المرأة حق الخلع مقابل حق الطلاق للرجل. 

ومن هنا، رأى أن الطلاق الشفاهى يستند إلى الموروث التقليدى للفقه القديم، الذى لم يراع المصلحة التى تقتضيها الشريعة الإسلامية، ويقرّ الصعيدى بأن «لولى الأمر أن يقلب المباح حرامًا لمصلحة المجتمع عندما يسىء المسلمون استعمال الحلال، وإذا كان الأمر فى ذاته مباحًا، إلا أن الله لم يبح لنا الأشياء إلا فى حدود المصلحة، فإذا انتفت المصلحة انتفت الإباحة».

ويوضح فى مخطوطته «فى ميدان التجديد»، وجوب أن يكون «الطلاق بعقد كتابى بشهود لأنه أبغض الحلال عند الله، وينبغى أن يكون بميثاق غليظ، كما هو الحال فى عقد النكاح».