جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عبدالرحيم طايع يكتب: السوشيال ميديا وفقدان البريق

لعبت السوشيال ميديا، منذ ظهورها في مصر، أدوارا إيجابية لا ينكرها أحد على مستويات شتى، ربما كان أبرزها الدور التنويري التوعوي، فقد أسهمت فعليا في تنوير الناس وتوعيتهم، وغيرت أنماط التفكير لأعداد كثيرة منهم، بقيت كذلك أعواما حتى غلبها الإظلام وفشا فيها التخبط وعدم إدراك الحقائق، وعمّها الخبال ولفها العبث؛ ففقدت بريقها الذي كان أو كادت، ورأى كثيرون من المعتبرين أنها لم تعد الساحة التي من خلالها يمكنهم صنع شيء يغير المجتمع ويطوره، بل وجدوا التركيز عليها إهدارا للوقت القيِّم، والتوقف عندها غيابا للتقدير السليم، واستمرار الإيمان بها ككفر بالواقع الذي ركبته وطغت عليه حتى انفردت بالوجود، وانزوى الواقع الذي يحتويها أصلا كأنها هي التي تحتويه!

لم تكن السوشيال ميديا كفكرة أكثر من وسيلة تجمع المتفرقين في السنين وتحيي العلاقات التي أماتها البعد، غير أن الحرية التي جللتها من البداية، الحرية التي لا حدود لها، فتحت الأبواب للممارسات الخاطئة والمشينة على مصاريعها، ومع مرور الوقت صارت عبئا على المجتمع لا مدخلا إلى لأمه وإصلاحه.. في مراقبتي الشخصية المستمرة للموضوع؛ لاحظت أن الفردية لا الجماعية هي الأبرز، وأن الكذب لا الصدق هو الشائع، وأن الاندفاع في الطرق التي آخرها الخراب هو المفضل.. هكذا، وما خفي، كما يقال، كان أعظم..

حل التثوير بديلا عن التنوير والتعمية بديلا عن التوعية، واستمرأ البشر الذين هجروا بيوتهم التي في أوطانهم إلى صفحاتهم التي في براح السوشيال الميديا الشاسع المخيف، استمرؤوا أن يعارضوا ما يجري على الأرض ليل نهار، وأن يسبوا مخالفيهم وينعتوهم بأقبح النعوت، ورث بعضهم من بعض مثل ذلك، بالتقليد والمجاراة، فصاروا ككتلة تكونت من أجزاء شبيهة أو متطابقة، ولا يشير الأمر إلى اتحادهم بقدر ما يشير إلى ضعف شخصياتهم وتهافت آرائهم..

الصفحات القوية ذات الرأي الخاص المتماسك قليلة ومعروفة، وأما صفحات هؤلاء الغوغائيين فهي الأكثر، وهي المؤثرة للأسف بحكم أكثريتها وصخب ملاكها وضغطهم المباشر وغير المباشر على الآخرين، لقد فاض الكيل بالأيقاظ المتنبهين؛ فانكمشوا على أنفسهم وحجَّموا التفاعل وحدَّدوه أو اختفوا بالكلية.

رواج الأخبار الزائفة، الأخبار السياسية بالذات، سمة من سمات السوشيال ميديا في نسختها الحاضرة، ومن يركض وراءها خاسر لا محالة؛ فالناشرون لا يتحققون مما ينشرونه البتة، كل ما يعنيهم أن تثير الأخبار حفائظ البشر وتملأ صدورهم غلا وغضبا.. كأن المخادعين والمخدوعين، سواء بسواء، يظنون أن النسخة القديمة ما زالت على قيد الحياة!

لعبة الجنس أيضا فاشية هناك، لعبة الصيادين والفرائس، وبين الفينة والأخرى تظهر فضائح بهذا الشأن عبر خاصية "سكرين شوت" التي تنقل للجميع ما جرى في الرسائل الخاصة بين فلان وفلانة أو بين اثنين من نفس النوع، وكذلك الطعن في الفنانين بسبب وبغير سبب، والتهجم على الدين بدراية وبغير دراية، ومن الأشياء المحيرة حقا أن يكون شخص هناك على علاقة واقعية بشخص آخر؛ فيجد الأول كل ما يبثه الثاني مخالفا لحقيقته الفعلية التي يعرفها..

لم تُترك اللغة العربية في حالها قط؛ فالأخطاء الفاحشة بالجملة، وتعكس ركاكة تعليمية لا مثيل لها، واستهتارا بالغا بوسيلة التعبير التي لا يملك معظمنا غيرها، ومن أراد التصحيح والتصويب فمآله إلى الحذف أو التبليك؛ لأنه، في نظر سدنة الأخطاء، متحذلق محض لا بد من ردعه ووضعه في المكان القصي المناسب لحذلقته!

هناك خاصية الفيديو المتاحة للاستخدام، ويرى الرائون الراشدون من خلالها عجبا كما يسمعون من خلال الملفات الصوتية الأعجب.. حفلات خاصة بائسة، وكلام تافه، لا يصلح حتى للتسلية، ولا يصح أن يصدر عن بشر يزعمون القراءة الواسعة والإلمام بالأمور، وفي الشعر والأدب بالمناسبة، تخترق الآذان سطور شديدة الرداءة، يسميها الأدعياء قصائد وقصصا، ومن الغرائب أنهم يتلقون عليها إعجابات هائلة وتعليقات مشجعة، هذا بخلاف السقطات الفادحة في المجال العلمي.  

هذه هي السوشيال ميديا المنتشرة الآن، ولا مجال للسيطرة عليها بأمانة؛ فالآفاق فسيحة والتحايل كبير والرقابة مهما تكن يقظة فإنها محدودة، إنما يبقى الانسحاب حلا عمليا قاطعا، أعني الانسحاب التكتيكي المؤقت، ولقد استنفدت السوشيال ميديا معظم أغراضها على كل حال، وغدا ينشئ العالم اختراعا جهنميا آخر للتواصل البشري!