جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

احذر الأخطاء التالية.. فن التفكير الواضح «3-3»

 

 

من أنماط التفكير الخاطئ أن نقع فى مخاطرة «التكاليف الغارقة» أو «Sunk Cost»، وهو مصطلح اقتصادى يشير إلى التكاليف التى تم صرفها فى مشروع أو قرار معين ولا يمكن استعادتها، وتحدث هذه المغالطة عندما يكتشف الإنسان أن قراره أو المشروع الذى دخل فيه فاشل، لكنه يستمر فيه، لأنه دفع الكثير من التكاليف، وإنهاء المشروع سيؤدى إلى خسارة هذه التكاليف، والنموذج الأشهر لهذا الخطأ عندما تذهب للسينما وتكتشف بعد بدء العرض أنه فيلم سخيف، التفكير الخاطئ يقودنا إلى الاستمرار فى مشاهدة الفيلم حتى لا نكون قد أهدرنا قيمة تذكرة الفيلم، ونتغافل عن أننا صحيح لن نسترد التكاليف التى دفعناها، ولكننا باستمرارنا ندفع مزيدًا من التكاليف من وقتنا وأعصابنا وسلامنا الروحى.

تنطبق هذه المغالطة أيضًا على الدخول فى العلاقات الإنسانية «خطبة، زواج، صداقة».. فيحدث كثيرًا أن يستمر أشخاص فى الارتباط بعلاقة لا تحقق لهم احتياجاتهم، ويكتشفون فى شركائهم عيوبًا كارثية، لأنهم يخشون خسارة التكاليف الغارقة «الهدايا، الشبكة، تكاليف الجهاز»، ويستمر إهدار المزيد من الموارد، مالًا أو وقتًا، على أمل أن تتحسن الأوضاع، رغم أنه لا يوجد أى مؤشرات إيجابية تؤكد أنها ستتحسن.

ويستحوذ هذا النمط من التفكير على من يهتمون بالمراهنات، فهم يستمرون فى المحاولات لتعويض الخسارة، فيخسرون أكثر، لأنه فى الاقتصاد لا علاقة بين التكاليف وبين نجاح الاستثمار مستقبلًا، ويرجع استمرار الإنسان فى إهدار الموارد لتحسين فرص النجاح وعدم اتخاذ القرار الحاسم بالانسحاب إلى أسباب عديدة، فى مقدمتها كراهية الفشل.

والأهم أننا كثيرًا ما يكون لدينا ما يعرف بالثقة الزائدة، وهذه الخاصية تزداد فى الرجال عن النساء، فنجد الرجال أكثر مبالغة فى حساب احتمالات النجاح، ولا يرتبط هذا بكون الشخص متفائلًا أو متشائمًا.. ولكننا جميعًا لدينا ميل لأخذ جانب «السفينة الناجية»، كل السفن غرقت لكننا سننجو، نستطيع أن نرى الشروخ فى سفن الآخرين ونعجز عن رؤية الثقوب فى سفينتنا.

يبالغ الإنسان عمومًا فى احتمالية النجاح فى كل خطوة يقدم عليها، ويعود ذلك إلى أن الضوء يسلط فقط على التجارب الناجحة، ويتجاهل الإخفاقات والفشل، فتجد كل شاب لديه موهبة فى «الكتابة، التمثيل، الغناء، الرسم». يبالغ فى تقدير احتمال نجاحه فى المجال الذى يعمل به، ونتجاهل أن خلف كل قصة ناحجة مئات القصص الفاشلة لأشخاص لم يكتب لهم النجاح، ففى الواقع تنخفض احتمالات النجاح والشهرة إلى أدنى حد.

يقول الكاتب «رولف دولبى» فى كتابه «فن التفكير الواضح»: «وراء كل كاتبٍ ناجحٍ سنجد مائةَ كاتب لا تُحقِّق كُتُبُهم إيراداتٍ، ووراء كل واحدٍ من هؤلاء المائة سنجد مائةً آخرين لم يتوصَّلوا إلى دار نشرٍ بعد، ووراء كل واحدٍ من هؤلاء المائة الآخرين سنجد مائةً آخرين شرعوا فى كتابة نسخة مخطوطة، ثم احتفظوا بها فى الدُّرج. لكننا لا نسمع إلا عن الناجحين، ونتجاهل أن النجاح فى مجال الكتابة يظل احتمالًا ضعيفًا وينطبق الشىء نفسه على المصوِّرين وأصحاب الشركات، والفنانين، والرياضيين، ومهندسى العمارة، وحائزى جائزة نوبل، ومذيعى التليفزيون، ومَلِكات الجمال، فوسائل الإعلام لا يشغلها الحَفْرُ فى مقابر الفاشلين».

هل يعنى ذلك أن نكون متشككين عند كل قرار نتخذه أو علاقة ندخلها أو طموح نتمنى تحقيقه؟ لا.. ليس الشك أو الريبة، لكن علينا التعقل وتجنب أخطاء التفكير والابتعاد عن تقليد العقل الجمعى فيما لا يفيد، وعلينا بالمرونة وترك العنان للفطرة فى القرارات اليومية البسيطة التى تكون عواقبها هينة، والتصرف بأكبر قدر من العقل والمنطق عند اتخاذ القرارات المصيرية.