جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

القرار فى أيدى وجهاء القاهرة الجديدة ولن يغضب أبو بكر

سألته : مارأيك في جهاد يوسف ؟

تطلع إليَّ بدهشة.. باستنكار ربما..

أيراني استخف به.. أنأى به عن الموضوع بالغ الأهمية الذي يحدثني بشأنه؟!!

جاري الشاب الذي لم يحل فارق السن الشاسع بيننا دون توحدنا في جلسات إنسانية وفكرية مساء كل يوم.

بدا مبتهجا ذاك المساء وهو يحدثني عما بلغه من اهتمام وجهاء منطقة جاردينيا هايتس التي نقطن بها  بإطلاق مشروع لتسمية شوارع  المنطقة.

كان منهمكاً في طرح العشرات من الأسماء.. عمر بن الخطاب.. أبو بكر الصديق.. علي بن أبي طالب.. عمر بن عبد العزيز.. فإذا بي أسأله: مارأيك في جهاد يوسف!

رد في دهشة.. في ضيق ربما:

- من جهاد يوسف هذا؟ وما علاقته بموضوعنا؟ ..

شرحت: من حوالي 3 سنوات فوجيء سكان الزاوية الحمراء بألسنة النار تخرج من نوافذ وشرفات شقة بالطابق الثالث في أحد المنازل.. كان رد الفعل التقليدي الصراخ والصياح العاجز.. لكن شاباً في منتصف العشرينيات.. بدون تردد.. حاول دخول الشقة من بابها الرئيسي.. لكن ألسنة النار والدخان الكثيف لم يمكناه.. نزل إلى الشارع.. وتسلق ماسورة الصرف الصحي.. ورغم ما واجهه من معاناة ومخاطر الموت إلا أنه لم يتراجع. .حتى أنقذ كل أفراد الأسرة المحاصرة بالنار والدخان الكثيف داخل الشقة المحترقة.. حملهم فوق ظهره.. بدءا بالأب المريض.. فالأم.. فأطفالهم الثلاثة.. مرة وراء المرة..

سألت جاري: هل سمعت عن قصة هذا الشاب؟

فقال في حيرة: شاهدت شيئا كهذا في التليفزيون.. أعتقد أن المحافظ قام بتكريم الشاب..

- ومنحه شهادة تقدير!! وماذا بعد؟!

- لا أفهم ..ماذا تقصد؟

- ها أنت نسيت القصة ولاتعرف اسم هذا الشاب؟

-أيضا لا أفهم..!

-أليس جهاد هذا بمعايير الدين والانتماء للوطن بطلا؟ أليس جديراً لما فعله بالتخليد؟

توهجت عينا جاري الشاب بالدهشة:

-أتقصد إطلاق اسمه على أحد الشوارع؟

-  في مدن مصر وقراها ملايين الشوارع.. بعضها يطلق عليها أسماء مثيرة للسخرية مثل درب المهابيل.. ماذا لو أطلقنا اسم جهاد يوسف على أي من هذه الشوارع؟ لا أظن أن الله العلي القدير سيقذف بنا في خانة الكفرة إن أطلقنا اسم  "مجاهد" على شارع في الزاوية الحمراء أو في القاهرة الجديدة مجاوراً لشارع يحمل اسم أبوبكر الصديق.. أو علي بن أبي طالب.

كان يتابعني في حيرة فاستطردت:

- تاريخ مصر مكنوز بعشرات الآلاف من أمثال  جهاد يوسف ومينا يفترض تخليد ذكراهم وذكرى مافعلوه باطلاق اسمائهم على شوارعنا ومياديننا جنباً إلى جنب أسماء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من رموزنا الإسلامية.

- ومن مينا هذا؟

قلت ضاحكا:

ـ ليس نارمر مينا هذا الذي درسنا في المدرسة أنه موحد القطرين من 5200 سنة.. مينا الذي أحدثك عنه شاب صغير من أسوان.. كان يسير في الشارع وفوجيء بأحد البلطجية يتعرض لفتاة.. اندفع ليحمي الفتاة.. لحظتها لم يفكر في ديانتها.. أهي مسيحية مثله أم لا.. كل ما شغله.. فتاة ضعيفة يحاول أحدهم الاعتداء عليها.. لم يتراجع أمام المطواة التي أشهرها البلطجي.. تمكن من انتشال الفتاة من قبضته.. لكنه تلقى طعنة أودت بحياته..!

- لكن مهما فعل هؤلاء كيف نساوي بينهم والخلفاء الراشدين والصحابة العظام رضي الله عنهم؟

- لا أقول أن نساوي.. مسألة المساواة أو عدم المساواة مشيئة الله سبحانه وتعالى يوم الحساب.. لكن هؤلاء لهم مآثر عظيمة.. لو أحد أتى بمثلها في زمن الرسول لعظم عليه الصلاة والسلام مافعل وفاض عليه بدعائه.

-أحول هذا كنت تتحاور مع خطيب المسجد يوم الجمعة الماضية عقب الصلاة؟

-  شيخنا كعادة الكثير من مشايخنا الأجلاء- كلما أراد الحديث عن البطولة والأعمال العظيمة رجع إلى كتب التراث وأسهب وأفاض في  قصص كثيرمنها مشكوك في صحته.. وكأن زمننا  هذا يخلو من أصحاب المروءة والشهامة!.. يومها ناشدته أن يتطرق في خطبه إلى الشاب عبد اللاه أحمد الذي أنقذ العشرات  خلال السيول التي اجتاحت بعض محافظات الصعيد عام 2016  قبل أن يموت غرقا .. وعن أحمد فرغلي العامل البسيط الذي لم يفكر أبداً حين ألقى بنفسه على قضبان سكة حديد العياط أن فعلته تلك قد تنتهي بيُتم أطفاله الثلاثة.. كل  تفكيره في تلك اللحظة تمحور حول إنقاذ طفلتين على القضبان من القطار القادم.. تمكن من إمساك إحداهما وقذف بها خارج القضبان ..إلا أن الوقت لم يسعفه ليفعل الأمر نفسه مع شقيقتها.. فاحتضنها ونام أسفل القطار ..ليفاجأ الأهالي بالطفلة في أحضانه مازالت تتنفس وهو جثة هامدة.  

-  أتذكر أن خطيب المسجد كان يتحدث خلال الخطبة عن أسباب تسمية الصحابي   حاتم الأصم بالأصم.

- قصة مشكوك في صحتها ولاتتفق مع العقل.. لكنها تتداول منذ 14 قرنا لتعظيم شأن الصحابي.. دون أن يفكر أحد كيف تسربت تفاصيل القصة لتنشر في الكتب وتتداول من قبل مليارات المسلمين.. رغم أن الجلسة التي ضمت الصحابي وإدعى فيها أنه أصم حتى لا يحرج المرأة لم يحضرها سواه وهي.. فمن سرب ما حدث؟ هل الصحابي نفسه؟!!! لو كان الأمر كذلك فهو إثم عظيم ارتكبه بفضحه تلك المرأة.. كما أن المرأة لن تفضح نفسها وتشيع ماحدث..وإن كنت أرى أن القصة كلها مختلقة مثل آلاف القصص التي يكتظ بها تراثنا الإسلامي ونرددها بعقول مغيبة.

تطلع إلي جاري الشاب في صمت فسألته:

فيم شردت؟

 فقال:

- لاأدري إن كنت محقاً في  وجهة نظرك بإطلاق أسماء هؤلاء المجاهيل على شوارعنا جنبا إلى جنب الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين وعظماء مصر!

- خلال حرب يونيو 67 كان جنديان مصريان يقودان سيارة عسكرية متوجهان من العريش إلى بور فؤاد.. الطائرات الإسرائيلية قصفت السيارة فتعطلت واستشهد أحد الجنديين.. الجندي الثاني نزع مدفع السيارة وحمله على ظهره.. روحه المصرية حالت دون أن يترك المدفع للإسرائيليين رغم ثقله.. أكثر من 100 كيلومتر قطعها على قدميه في الصحراء حتى وصل بور فؤاد.. لو كنتُ مسئولاً عن مشروع لتسمية الشوارع لاتصلت بإدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة.. وسألت عن اسم هذا الشاب وقصته.. ولن أفاجأ بإدارة التوجيه المعنوي تمطرني بآلاف القصص الحقيقية لجنود مجاهيل على شاكلة هذا الجندي العظيم.. وهذا أيضا حال وزارة الداخلية التي تحتشد دفاترها بقصص مئات الشهداء من الضباط والجنود الذين سقطوا برصاص الإرهابيين والبلطجية.

هؤلاء وجاهد يوسف ومينا وعبد اللاه لا ينبغي أن يكونوا مجاهيل ..هل هناك فعل يفوق في عظمته أن يعرض الإنسان  حياته للخطر.. أن يضحي بها لإنقاذ غيره.. للدفاع  عن تراب وطنه ؟!! نحن بندنا هؤلاء في خانة المجاهيل.. لأن قيم التضحية ليست راسخة في ثقافتنا.. وبسبب التضليل الذي تعرض له الدماغ الجمعي.. أصبحنا نُنَجم من لايستحق ونُجَهِل  ونتجاهل من يستحق.

جعلنا من سعد زغلول زعيما للأمة.. بل كنا نهتف: نموت نموت ويحيا سعد.. رغم أن سعد هذا كان عضوا في جمعية أصدقاء الأنجليز التي أسستها الملكة نازلي.. سعد هذا كان مقربا للغاية من جزار دنشواي اللورد كرومر.. وجمع تبرعات لإقامة حفل تكريم له وهو يستعد لمغادرة مصر.. سعد هذا لم ينبث بحرف واحد انتقادا لمذبحة دنشواي.. وكان اللورد كرومر وراء  تعيينه وزيرا للمعارف.. ثم وزيرا للحقانية.

سعد هذا أقمنا له التماثيل وأطلقنا اسمه على أكبر شوارعنا.. قد يرى الكثير أنه زعيم وطني.. وأنه يستحق الاحتفاء به.. ليكن.. لكن ماذا عن شفيقة عشماوي.. تلك الفتاة التي اندفعت خلال مظاهرات ثورة 19 في اتجاه المعتمد البريطاني تلوح بيمينها بعلم مصر وفي يسارها مذكرة احتجاج ضد الاحتلال.. فإذا برصاص الانجليز ينهال عليها لتسقط كأول شهيدة  في الثورة.. ومثل شفيقة مئات الآلاف من الفلاحين والطلبة والأفندية الذين خرجوا في مظاهرات عارمة وقطعوا خطوط السكك الحديدية..واستشهد منهم الآلاف.. ليتواروا في دهاليز النسيان.. ويتحولون إلى مجاهيل لانعرف عنهم شيئاً..  

أليس هؤلاء جديرون بأن يتناول تضحياتهم مشايخنا الأجلاء في خطبهم.. أليس هؤلاء جديرون بإطلاق أسمائهم على شوارعنا ؟!

- غدا سألتقي بأحد وجهاء المنطقة وأحدثه عن اقتراحك هذا.

- واقترح عليه أيضاً أن يضموا لقائمة أسماء الشوارع ..اسم رجل تبرع بأرض في التجمع الثالث أقيم عليها مركز لرعاية الأيتام من الأطفال المعاقين.

-ما اسم الرجل؟

- لا أدري .. أحدهم حكى لي قصته منذ عدة أيام.. أرض ثمنها ملايين الجنيهات تبرع بها لمشروع خيري مهم كهذا.. لو صدق الأمر.. أليس جديراً بإطلاق اسمه على شارع حتى لو كان مجاورا لشارع أبو بكر الصديق.

قال ضاحكا وهو يستأذن منصرفا:

-أفكارك النارية تلك ستجعلهم يتجنبونني.

قلت:

-لو أبو بكر رضي الله عنه التقى بأي من هؤلاء المجاهيل العظماء يوم القيامة لشد على يده محييا ..المشكلة يا صديقي فينا وليست في الصديق !!!