جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

جلال حمام يكتب: الإنذار الأخير.. قبل أن يبدأ الطوفان

نهاية أكتوبر الماضي، نشر موقع "سبوتنيك" الروسى أهم ما جاء في ندوة نظمتها سفارة إثيوبيا فى تل أبيب، لم تتناولها وسائل إعلام مصرية أو عربية، حضرتها السفيرة الإثيوبية وسفيرا غانا وجنوب السودان.. كان من أهم المتحدثين فيها د. حجاى إيلرخ، المتخصص فى الشئون الإفريقية بجامعة تل أبيب ومؤلف كتاب "الصليب والنهر.. مصر وإثيوبيا والنيل".
 

وكان من بين ما قاله، إن "فكرة الحقوق التاريخية فى النيل لا تزال تسيطر على عقل المصريين، وهم يتجاهلون إثيوبيا عبر التاريخ، رغم أن ماء النيل ينبغ من أراضيها.. وسد النهضة زلزال مدمر ضرب مصر، وعقل المصريين لا يستوعب بعد أن مرحلة جديدة فى التاريخ تبدأ الآن بوجود سد النهضة، ولن يكون ممكناً بعد الآن استمرار اعتماد المصريين التاريخى على النيل فى حياتهم الاقتصادية، وسوف نرى قريباً بحيرة السد العالى وهى تفرغ تماماً من المياه خلال سنوات قليلة، ولن تولد كهرباء من السد وحينها سوف تنتظر مصر المياه الآتية من إثيوبيا!".
 

وأضاف أنه مهما طالت المفاوضات فهى لا تعنى الكثير، لأن السد موجود أصلاً، وسيتم الملء، وستتحكم إثيوبيا فى النيل، وأنه مثلما كان السد العالى هو مشروع ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ فى مصر، فإن سد النهضة هو "مشروع الحضارة الحالية فى إثيوبيا"!!.. فى نفس الندوة، تحدث نائب رئيس الشئون الأكاديمية فى معهد هيرتزل الإسرائيلى الدكتور عريف هايفرى، وهو من تلاميذ إيلرخ.. قال إن "على مصر أن تستوعب الواقع الجديد، وتؤمن أن من حق إثيوبيا استخدام حصتها من النهر، داعياً مصر إلى شراكة جديدة تستخدم التكنولوجيا الإسرائيلية، واستثمار محتمل من الولايات المتحدة، سوف يكلف مصر ٧٠ مليار دولار لتحلية ٦ مليارات متر مكعب من مياه البحر سنوياً"!. ما قاله الخبيران الإسرائيليان يكشف بوضوح عما تحلم به إسرائيل، وربما عما تفعله لمساعدة إثيوبيا.
 

وأكدت دراسة الأثر، التي أجرتها شركة Deltares الهولندية، ذات السمعة الطيبة، أن التعبئة أحادية الجانب لسد النهضة يمكن أن تؤدي إلى نقص المياه في مصر بأكثر من 123 مليار متر مكعب، وأنه في القطاع الزراعي وحده فإن كل مليار متر مكعب من نقص المياه سيؤدي إلى إجبار 290 ألف شخص على ترك العمل بالزراعة، ومن ثم تدمير أكثر من 321 ألف فدان من الأراضي المزروعة، وزيادة قدرها 150 مليون دولار في الواردات الغذائية لمصر، وخسارة قدرها 430 مليون دولار من عوائد تصديرها جزءا من إنتاجها الزراعي.. وقد يُؤثر بناء السد في الأراضي الزراعية، والمناطق السكنية المجاورة للسد، في السودان، فقد يتسبب في هجرة نحو 30 ألف مواطن، وإغراق حوالي نصف مليون فدان من الأرض الزراعية، علماً بأن مخاوف كل من مصر، والسودان، تكمن في فقدان كميات كبيرة من مياه نهر النيل (حوالي 25 مليار متر مكعب)، كما أن نقص مخزون المياه وراء السد العالي سيُخفض من إنتاجه للكهرباء بنسبة تتراوح بين 20%ـ 40%.
 

لكل هذا، أنذرت مصر الجميع، وداخل المجتمع الأمريكي، من خلال مقال السفير المصري في الولايات المتحدة، معتز زهران، الذي نشرته جريدة "فورن بوليسي" الأمريكية، أكد فيه أنه ومع اقتراب إثيوبيا من ملء خزان السد من جانب واحد للمرة الثانية، وبالتالي تجاوز (الخط الأحمر) الذي حدده الرئيس عبدالفتاح السيسي، قد يكون الأمر متروكاً للولايات المتحدة، للمساعدة في التوصل إلى حل سلمي ومنع الاضطرابات في المنطقة، التي ستتطلع قوى التطرف والإرهاب بلا شك إلى استغلالها.. ويتعين على إدارة بايدن، التي تدرس حالياً أفضل سياسة لإدارة هذا الوضع، أن تتحرك الآن.. لأن مستقبل نهر النيل على المحك، وهو شريان الحياة لملايين المصريين والسودانيين.
 

في عام 2011، ودون استشارة أي من جيرانها في المصب، بدأت إثيوبيا في بناء سد خرساني بارتفاع 145 متراًـ كبير بما يكفي لتخزين ضعف كمية المياه التي تخزنها بحيرة ميد، أكبر خزان اصطناعي في الولايات المتحدةـ على النيل الأزرق، وهو جزء حيوي من المنبع من نهر النيل، مما يعني أن التهديد الذي يشكله سد النهضة  ليس افتراضياً، ولكنه حقيقي.. ويبين التاريخ أن التقدم على طول نهر النيل يمكن أن يكون هشاً، وأن نزاعاً واحداً يمكن أن تكون له آثار ضارة تزعزع استقرار المنطقة وتصل إلى حلفائنا في الغرب.. ومن شأن الفشل في حل المسألة المتصاعدة أن يعجل بالآثار المدمرة بالفعل لتغير المناخ في المنطقة، وأن يطلق العنان لموجة من الهجرة غير الشرعية إلى الغرب، وأن يفتح الباب أمام صراعات جديدة، بل وحتى الإرهاب في الشرق الأوسط وشرق إفريقيا.
 

من خلال الدبلوماسية القائمة على المبادئ، يمكن لإدارة بايدن إعادة ضبط المفاوضات المتعثرة، والتوصل إلى حل عادل لجميع الأطراف، في نهاية المطاف، حماية مصالحها الاستراتيجية مع ثلاثة حلفاء إقليميين مهمين.. وعلى الرغم من أن البيانات السياسية الإثيوبية تتحدث عن التزامها بعملية الوساطة التي يقودها الاتحاد الإفريقي، مستندة إلى المبدأ المشترك (الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية)، فإن تصرفات إثيوبيا تقوض بوضوح دور الاتحاد الإفريقي.. وقد تجلى ذلك في رفض إثيوبيا القاطع، في الاجتماع الأخير الذي عقد في كينشاسا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، أوائل أبريل الماضي، مقترحات مشتركة متعددة من السودان ومصر، لتمكين العملية التي يقودها الاتحاد الإفريقي.. وذلك لأن إثيوبيا تفضل دوراً اسمياً للاتحاد الإفريقي بدلاً من القيام بدور نشط.
 

هناك حقبة جديدة من الاستقرار والازدهار الاقتصادي المشترك تلوح في الأفق في إفريقيا والشرق الأوسط، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى القيادة الثابتة للولايات المتحدة.. ومن الأمثلة على التغييرات الجديرة بالترحيب التي تجتاح المنطقة اتفاقيات التطبيع الأخيرة التي توسطت فيها الولايات المتحدة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، والتي كانت تذكرنا بمعاهدة مصر الرائدة مع إسرائيل ـ التي توسطت فيها الولايات المتحدة أيضاًـ قبل أكثر من 40 عاماً.. تتمتع الولايات المتحدة بالنفوذ اللازم لتشجيع إثيوبيا بنجاح على الانخراط، بحسن نية، في مفاوضات سد النهضة، والامتناع عن اتخاذ إجراءات أحادية الجانب والسعي لتحقيق مصالح ذاتية ضيقة، والتي أضرت بالمصالح المشروعة لجيرانها.. ومن شأن التماس الخبرات من الشركاء الدوليين، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، دعماً لعملية الوساطة التي يقودها الاتحاد الإفريقي، أن يكون ذا قيمة كبيرة في تحقيق المفاوضات في أقرب وقت ممكن.
 

إن عدم تعامل المجتمع الدولي والأقطاب الفاعلة في العالم مع المشكلة بالاهتمام الحاسم في حلها، فإن مصر ستجد نفسها مضطرة للتدخل العسكري لمنع عملية الملء الثاني، التي قد تتسبب في دمار لا يمكن إصلاحه.. ومعروف أن التفوق المصري في المجال العسكري على إثيوبيا يجعلها قادرة على التدخل لحسم الأمر لصالحها.. فمصر في عام 2021، هي الدولة الثالثة عشرة عالمياً من حيث القدرات العسكرية، ولديها خبرات مخابراتية وحربية ذات ثقل في المنطقة، وهي في ذلك تتفوق بدرجة عالية على إثيوبيا، التي تحتل حالياً المركز الستين على مستوى العالم في القوة العسكرية.. لكن القاهرة ما زالت متمسكة بحبال الصبر، لعلها تنجح في تجنيب المنطقة ويلات صراع، الذى لن يبقي ولن يذر.. وأنها لن تنجر نحو عمل إلا بإرادتها الخالصة، غير مدفوعة إليه بضغط أو تحريض، لكن بمنطق الفعل المناسب في الوقت المناسب.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.