جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

نابليون بلا رتوش

 

 

فى مثل هذا اليوم، منذ ٢٠٠ سنة، رحل نابليون بونابرت، الذى يرى الفرنسيون وبعض التابعين أنه أحد أبرز القادة العسكريين فى التاريخ، مع أن المعارك أو المغامرات العسكرية، التى خاضها، لمدة ١٩ سنة متواصلة، انتهت بسقوط حكمه مرتين وتدمير جيشه وإفلاس خزانة بلاده، وأسفرت عن مقتل نحو ٦ ملايين، وأعادت الاقتصاد الأوروبى جيلًا كاملًا إلى الوراء!. 

باعترافه، قاد الجنرال نابليون جيشًا من الجياع والعراة، لنهب ثروات الدول. وبالنص قال لقواته فى مارس ١٧٩٦: «أيها الجنود، أنتم عراة ولا تحصلون على ما يكفى من الطعام، والحكومة لا يمكنها أن تعطيكم أى شىء.. أريد أن أقودكم إلى أخصب سهول العالم، وهناك ستنالون المجد والثروة». وبهذه المعادلة حاول تأسيس مستعمرة لبلاده فى مصر، سنة ١٧٩٨، وباءت محاولته بالفشل بعد ثلاث سنوات وشهرين ويوم واحد. والأهم، هو أنه، بعد توليه السلطة، أعاد فرض العبودية فى المستعمرات الفرنسية بمرسوم أصدره فى ٢٠ مايو ١٨٠٢، ما أفقد عددًا كبيرًا من سكان تلك المستعمرات حقوق المواطنة ورواتبهم وآدميتهم. 

ليس صحيحًا أن الثورة الفرنسية ألغت العبودية، كما يُشاع، إذ إنها حين ألغت امتيازات النبلاء، فى ٤ أغسطس ١٧٨٩، لم تتطرق إلى هذا الموضوع أصلًا. وما حدث هو أن ثورات العبيد، التى شهدتها المستعمرات الفرنسية، خاصة جودلوب وسانت دومينج، هى التى أجبرت المؤتمر الوطنى الفرنسى «البرلمان» فى ٤ فبراير ١٧٩٤، على إلغاء العبودية. لكن بمجرد التوقيع على معاهدة أميان، Amiens، فى ٢٥ مارس ١٨٠٢ التى أنهت حرب التحالف الثانية، وما إن تذوق الفرنسيون طعم السلام بعد سنوات من الحروب التى تلت ثورتهم، قام نابليون بإلغاء هذا القرار!.

الأكثر من ذلك، هو أن نابليون تعهد بعدم إعادة العبودية فى جودلوب وسانت دومينج. لكن لم تمض عدة أشهر حتى أعاد فرضها فى الأولى بحملة عسكرية قادها الجنرال أنطوان ريشبانس، وحاول تكرار الشىء نفسه فى سانت دومينج، غير أن الحملة أشعلت ثورة، قادها جان جاك ديسالين ودوناتان مارى جوزيف دو فيميور، انتهت باستقلال تلك المنطقة، سنة ١٨٠٤، وإعلان قيام جمهورية هايتى، لتكون تلك هى الثورة الوحيدة فى التاريخ، التى أدت إلى تأسيس دولة.

أسطورة نابليون العسكرية سقطت فى إسبانيا وروسيا، قبل أن تسقط فى فرنسا نفسها: فى الأولى فشل فى مواجهة حرب عصابات لم يتوقعها، ولـ«فرانسيسكو دى كويا» لوحة شهيرة عنوانها «الثالث من مايو سنة ١٨٠٨»، عن قيام الفرنسيين بإعدام ٥ آلاف مقاوم إسبانى خلال يومين فقط. أما فى الثانية، فقاده غروره، أو سوء تقديره، إلى شن حملة أكبر وأوسع من قدراته، قضت على جيشه وأجبرته على التراجع، تاركًا جثث أكثر من ٣٥٠ ألف جندى. وبعد أن هزمته قوات الائتلاف السادس، سنة ١٨١٣، اجتاحت فرنسا فى السنة التالية ودخلت العاصمة باريس، وأجبرته على التنازل عن العرش، فى أبريل ١٨١٤، وقامت بنفيه إلى جزيرة ألبا.

حكم نابليون فرنسا بصفته قنصلًا عامًا، ثم إمبراطورًا، إلى أن تم إجباره على التنازل عن العرش، وحين هرب من منفاه، وتمكن من استعادة السلطة، خلال ما عرف بـ«المائة يوم»، تعرض لهزيمة قاسية فى ووترلو، سنة ١٨١٥، أجهزت على ما تبقى من أسطورته العسكرية، وأنهت مشواره السياسى، وأجبرته على قضاء السنوات الست الأخيرة من حياته منفيًا فى جزيرة سانت هيلانة، التى لا تهدأ فيها رياح المحيط الأطلسى، ولا تزال خاضعة للحكم البريطانى. 

على خطى حركة «حياة السود مهمة»، التى استهدفت شخصيات تاريخية، كان لها دور فى تكريس العبودية والعنصرية، استنكر مؤرخون احتفال فرنسا بالمئوية الثانية لطاغية عنصرى، وأرجعوا ذلك إلى أنها لا تزال أسيرة ماضيها الاستعمارى ولم تتخلص بعد من عنصريتها. وطالب المؤرخ فريدريك ريجنت، مثلًا، بأن تكون تلك الذكرى مناسبة لإعادة تشكيل أسطورة نابليون، وتمنى أن يقترب خطاب إيمانويل ماكرون، قدر الإمكان، من الواقع التاريخى. فى إشارة إلى الكلمة التى من المفترض أن يلقيها الرئيس الفرنسى اليوم، الأربعاء، فى ضريح نابليون.

فى مثل هذا الوقت، منذ ٢٠٠ سنة، كان نابليون غائبًا أو شبه غائب عن الوعى، وفى إحدى اللحظات التى استعاد فيها وعيه، قال كلماته الأربع الأخيرة: «فرنسا.. جيش.. قائد.. جوزفين»، ثم صمت للأبد، فى الساعة الخامسة وتسع وأربعين دقيقة مساء يوم ٥ مايو ١٨٢١، عن عمر يناهز ٥١ سنة و٨ أشهر و٢٠ يومًا. ولأن السيرة أطول من العمر، ظهر جنرال آخر يحمل اسم «نابليون بونابرت» فى إندونيسيا، كان رئيسًا لقسم العلاقات الدولية فى الشرطة الإندونيسية، وعوقب فى ١٠ مارس الماضى، بالسجن ٤ سنوات فى قضية فساد!.