جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

النيل في خطر: قراءة في كتاب مهم (3)

بمناسبة التطورات التي يراقبها الجميع بشأن "سد النهضة الإثيوبي" والمخاطر الوجودية التي يحملها لمصر والسودان، وشعبيهما، والدور الإسرائيلي في تحريض إثيوبيا، ودفعها للضغط على مصر بشتّى السُبل والأساليب التي برع فيها الصهاينة، أعدنا ـ في المقالين السابقين ـ استعراض جانب من كتاب الأستاذ "كامل زهيري" المُهم: "النيل في خطر"، والهدف هو تنبيه الذاكرة الوطنية، والتحذير من استمرار الأطماع الصهيونية وتلونها حسب الظروف والملابسات، والتأكيد على أن دولة الاحتلال الصهيوني، لا تزال مُصرّة على الحصول على نسبة من نصيب مصر من مياه النيل، لسبب واضح ومفهوم: إن إسرائيل بحاجة ماسة للحصول على أكبر كمية يمكن اقتناصها من مياه النيل، بسبب محدودية مُتحصلاتها من المياه، بعد أن استولت على أغلب المياه الفلسطينية، واغتصبت مياه مرتفعات الجولان السورية، ومياه نهر الأردن، ومياه الجنوب اللبناني، واستنزفت المياه الجوفية في المنطقة، ثم إنها في حاجة ماسة لمزيد من المياه، لأن ذلك يُتيح لها استقدام وتوطين أعداد أكبر من اليهود الموجودين بالخارج، من أجل استكمال المشروع الصهيوني وتوسيع رقعته!

 ونتناول في هذه المقالة، بتفصيل أكبر، محاولات الحركة الصهيونية استيطان سيناء، لكي يعلم من لا يعلم أن أطماع الصهيونية لم، ولن تنحصر في فلسطين وحسب، وقد يُفاجأ البعض من معرفة أن الحركة الصهيونية العالمية، بزعامة "تيودور هرتزل" سعت للحصول على سيناء المصرية كموقعٍ للدولة الصهيونية الموعودة، قبل أن تُطرح فلسطين على الأجندة، وربما كخطوة باتجاه هدفها الفلسطيني، واعتمدت في محاولة تحقيق هذا المسعى، على عناصرها من اليهود الصهاينة والمتصهينين من كبار رجالات الإمبراطورية البريطانية التي كانت تحتل مصر آنذاك.

  وقد طلب "هرتزل" من السلطان العثماني "عبد الحميد الثاني مكاناً لمشروع دولته المأمولة فعرض عليه وادي الفرات (العراق) لكنه رفض، واتجهت الأنظار إلي سيناء والعريش، وتم الاتصال باللورد "كرومر" المُعتمد البريطاني في مصر، الذي لم يعترض في البداية، وفي سرّية مطلقة بدأ العمل على كل الجبهات لتحقيق الغاية المطلوبة، وتوفير الاعتمادات المالية اللازمة، والبحث عن سبل توفير أهم عنصر لنجاحه: المياه!

وتكونت بعثة علمية، ضمّت متخصصين صهاينة ثُقات، اخترقت وجذبت أنصاراً لمشروعها داخل السلطة المصرية (بطرس باشا غالي)، والمسئولين البريطانيين (كرومر)، وغيرهم، وقامت هذه البعثة بدراسة تفصيلية لإمكانية استيطان: (1) سهل الفرما، (2) جنوب بحيرة البردويل بين وادى الفرما ووادي العريش، (3) وادي العريش وملحقاته وصحراء التيه، (4) سلسلة جبال التيه ومناطق مساقط المياه، و(5) الجبال والأودية والسهل الواقع بين المنطقة السابقة والسويس!

وانتهى تقرير البعثة العلمية الصهيونية إلى أنه "رغم صعوبات المناخ، فإنهم يؤكدون بثقة، أنه إذا ما توافر الماء، فإن أحوال التربة والصحة والجو، يُمكن في المنطقة الصحراوية أن تستوعب عدداً كبيراً من السُكّان"! وحددت المكان الأنسب لحدود المناطق المطلوبة كالتالي: "شواطئ البحر الأبيض شمالاً، وحدود النفوذ العثماني شرقاً، والحدود الجانبية مساقط وادي العريش ومرتفعات التيه، أي خط عرض 29 تقريباً، وتكون الحدود الغربية هي قناة السويس والخليج"، وهو ما يكشف، كما يكتب "كامل زهيري" عن فداحة أطماع الصهيونية في سيناء ومياه النيل"!

وبناء على هذه التقديرات، تقدم "تيودور هرتزل" بمشروع الاتفاقية التي أراد بها التعاقُد مع الحكومة المصرية للحصول على امتياز الاستيطان في شبه جزيرة سيناء، على الأرض الكائنة شرقي قناة السويس البحرية وحق استيطانها، بموجب تعاقد لمدة 99 سنة قابلة للتجديد، مع إعفاء الأرض المطلوبة لمدة 5 سنوات من أية ضرائب، والتصريح بإنشاء الموانئ في الأرض الممنوحة للشركة، ووسائل المواصلات كالطرق والسكك الحديدية وخطوط البرق والهاتف وغيرها.

كما تضمن العقد جواز حصول الشركة على امتياز عن بقية شبه الجزيرة (سيناء) على أساس هذه الاتفاقية، على أن تكون مسألة توفير مياه النيل لشبه الجزيرة موضع اتفاق لاحق!

 وقد فشل مشروع احتلال سيناء وإنشاء الدولة الصهيونية على أرضها، والسبب الأساسي: العجز عن توفير كمية المياه المطلوبة، ونقلها من النيل إلى "الأرض الموعودة" بسبب عوائق عديدة حالت دون إقرار الحكم البريطاني لها، في مقدمتها ما يتصل بكميات مياه النيل التي طلبتها الحركة الصهيونية لري سيناء، كما يقول المؤلف، ومنها صعوبة تنفيذ فكرة الأنفاق تحت قناة السويس فنياً، وهو ما لم يعد صعباً الآن بعد تطور الفنون الهندسية الحديثة.

  وكان لازماً أن تمر ثلاثة أرباع القرن (من 1903 إلى 1978) لكي نقرأ في جريدة "معاريف" الصهيونية أن هناك اقتراحاً إسرائيلياً بأن تقوم مصر ببيع مياه النيل لإسرائيل، وهي فكرة المهندس الإسرائيلي "إليشع كلي"، الذي نشر مقالاً تحت عنوان "مياه السلام"، بهدف "حل مُشكلة المياه التي ستضطر إسرائيل لمواجهتها في بضعة سنوات قادمة"، مُقابل (لإغواء أو إغراء مصر): تحقيق "فائدة اقتصادية من المشروع"، و"الفائدة التي يُمكن أن تُقدِّمها مصر هي أن تبيع المياه لإسرائيل لزراعة القطن، بنفس الثمن الذي تبيع به القطن نفسه. وهذا الشيء نافع لإسرائيل، حيث يستطيع المزارع الإسرائيلي أن يُنتج بواسطة متر مكعب من الماء ستة أضعاف ما يُنتجه الفلاح المصري من القطن بنفس كمية المياه"!

  وشرح "كلي" تفاصيل مشروعه: حيث يتم نقل المياه بواسطة أنابيب تمر تحت قناة السويس بجانب الإسماعيلية لتصب في الجانب الآخر في قناة مُبطنة بالخرسانة تمد صحراء النقب والمناطق الإسرائيلية المُغتصبة من شعب فلسطين بـ "قبلة الحياة"!

ويُنهي "إليشع كلي" مقاله بقوله: "إن احتمالات إخراج المشروع إلي حيز التنفيذ احتمالات كبيرة الآن"! ..الآن!