جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مهدى مبارك يكتب.. ليالى الأنس فى فيينا.. البحث عن الله يبدأ «يوم الوقفة»

لن تجد سوى ٤ مآذن فى النمسا، فالمساجد ليست مساجد، إنما هى غرف وشقق وطوابق فى عقارات ضخمة بلا مكبرات صوت، يمكن أن تدق الشرطة بابها فى أى لحظة لتسأل عن التراخيص، وإذا كانت الغرفة تحمل ترخيص إقامة مسجد، وتجمع دينى، ستتركها لصلواتها وقرآنها، وتغادر، وإن لم تجدْه ستلاحقهم بـ«سين وجيم»، واتهام ساخن بالترتيب لتفجير فى وسط فيينا، وعلى المتضرر أن يلجأ إلى المركز الإسلامى، المسجد الوحيد الذى أقيم على هيئة مسجد، وله قبة، وتعطل بناؤه بسبب الحرب العالمية الثانية، وأصبح ملتقى المسلمين لإقامة حفلات الزفاف والطهور وصلوات العيد، والتجمعات والاحتفالات.

لا يمكن أن تكتشف الإسلام فى فيينا إلا يوم العيد، تجد جحافل بسجادات الصلاة والحجاب تخترق الشوارع إلى المركز الإسلامى، وتصلى العيد على مرات، فالصلاة خارج المسجد ممنوعة، والأعداد كبيرة، ولا بد أن ينهل الجميع من بَرَكة العيد، حتى لو لم يكن صائمًا فى رمضان، فالحياة الأوروبية تجعل البعض «مسلمين على ورق» وتفرِّق الناس، لكن يوم الوقفة واحتفالات العيد تجمعهم مرة أخرى.

والحجاب هو السمة المميزة الوحيدة للمسلمات فى النمسا، أمّا الرجال فلا شىء يميزهم، إلا إذا كانوا مهاجرين من البوسنة والشيشان، لم يجدوا ما يريدونه فى بلادهم، فذهبوا ليطبقوه فى بلاد أخرى، وأصبحوا إما مسلمين متشددين، أو ملحدين متحررين.

يرتدى رجالهم سراويل وصديريات أفغانية تداعب لحاهم الطويلة، ونساؤهم يرتدين إسدالًا «لأن النقاب محظور»، ويسوّقون منهج المتشدّد، وسخريتهم من «الإسلام المزيف» للجميع، فالطفلة عندهم تتزوج «دون أوراق رسمية»، والحب خطيئة، وتفويت الفروض يصبح فى مرتبة الكبائر، والمتمرّدون على الحياة الأفغانية، رغم أنهم يعيشون فى قلب أوروبا «الصليبية»- كما يعتبرها القادمون من البوسنة والشيشان- يذهبون إلى أقصى اليسار: خمور وسهرات وزواج من ديانات أخرى. 

يكبر الأولاد كآبائهم، يصبحون نسخًا مكررة من البلاد التى جاءوا منها، والتعليم لا يغير فيهم شيئًا، فالمدارس تحمل أسماء إسلامية، تدرس الفقه والقرآن والتفسير واللغة العربية، وتتجاهل مناطق الخلاف «بأمر حكومى»، لكن الشكوى الأكبر من المدارس الإسلامية فى النمسا أن المدرسين متحرشون ومصابون بالكبت، لا يطبقون شيئًا مما يدرّسونه يوميًا، والبنات مراهقات، عشنَ طويلًا وراء الإسدال والأبواب المغلقة والعادات الملفقة، وكل يوم دراسى لا يخلو من أشياء خارجة عن الدين والذوق والقانون، لكن المدرسة مجتمع سرى، ما يحدث فيه لا يخرج منه.

لا يزعج المسلمين إلا قوة اليهود، الذين سيطروا بقوة «مظلومية الهولوكوست»، فلا يدفعون ضرائب، وكل مشكلة صغيرة فى حياتهم تتحول إلى فضيحة كبيرة و«هولوكوست» جديد، والمدرسة الإسلامية الأكبر فى تاريخ النمسا كانت تابعة لسفارة دولة إسلامية، غضب يهودى من وجودها بالقرب من مكتبه فأغلقها! أقام دعوى قضائية، واتهمها بـ«إرهاب الطالبات» وإجبارهن على حصص الفقه والحديث، فصدر قرار بإغلاقها نهائيًا.

من يزور النمسا، يكتشف أحياءً إسلامية كاملة لا تشبه ما يقرأه على الإنترنت من قهر المسلمين، والفتك بهم على أيدى المتعصبين، يمكن للمسلمة أن تمشى فى الشارع فجرًا، ولن يتعرض لها أحد، ويمكن لها أن ترتدى ما تريده، حتى إن موجات اللجوء السورى خلقت أحياء إسلامية، من يدخلها يعتقد أنه خرج من فيينا، ودخل «دولة الخلافة». 

أسأل عن تلك الأحياء، فأسمع ردًا: «الحى الـ١٠ والـ١٦»، من يدخلهما يسمع كلامًا باللغة العربية أو التركية، ويجد بضائع جديدة فى المحال، فملابس السهرة تختفى، ويحل محلها الإسدال و«البوركينى»، والأتراك يسيطرون على حركة التجارة، ويوظفون اللاجئين السوريين لأنهم عمالة رخيصة ولا تتمرد على صاحب العمل، من الحيين الإسلاميين، تبدأ الدعوة للإسلام، فيمكن أن يشترى زبون أى شىء، ليرد البائع: «كل سنة وأنت طيب، سلام عليكم». 

يعتبرها النمساويون تبشيرًا أو دعوة للإسلام، رغم أنهم لا يهتمون بالدين من الأساس. الأجيال الجديدة غارقة فى الحياة، والدين، أيًا كان اسمه، بالنسبة لهم، «تسلية» لكبار السن، وهو ما يجعلهم أكثر سلامًا وتسامحًا وأقل عنصرية مع المسلمين، فهم لا يجدون فرقًا بينهما: أنتم مسلمون بلا مساجد، ونحن مسيحيون لا نذهب إلى الكنيسة، لكن المسلمين يعرفون أنهم «جماعة سياسية» ثقيلة، يمكن أن تطرد حزبًا من السلطة، وتسلمها لآخر، فرئيس الوزراء الحالى، سيباستيان كورتز، يمنع النقاب صباحًا- بالاتفاق مع البرلمان- ثم يحضر حفلات زفاف مسلمين لا يعرفهم شخصيًا، ويلتقط الصور مع المحجبات ليلًا، وهو يستنشق رائحة أصواتهن للانتخابات.