جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

العربية والهوية المصرية



خلق الله الإنسان فى أحسن تقويم وسخّر له كل الموجودات، فتعددت الجنسيات واللغات والثقافات والانتماءات، ولكن ظلت الوحدة الإنسانية هى الرباط الأساسى الذى يجمع الإنسان، مطلق إنسان، أيًا كانت جنسياته أو انتماءاته.
ولذلك رأينا الحضارات التى أبدعها الإنسان «عبر الزمان ولأنها إبداع إنسانى» تتحاور وتتلاقى وتتكامل فى إطار إنسانى، فكانت الحضارات والتقدم الإنسانى، ولذا نجد أن الحضارات القديمة تتحاور وتتكامل، فالحضارات المصرية القديمة والفينيقية والفارسية والهندية والإغريقية تواصل كل منها مع الحضارة الأخرى فاستفادت وأفادت البشرية كلها. 
فإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يكون هناك عدم تواصل أو تحاور بل تناقض بين الحقبات التاريخية التى مرت على مصر؟ لا شك، لأن الإنسان المصرى أيًا كانت أصوله الجنسية هو صانع ومبدع هذه الحضارة المتعاقبة عبر تلك الحقبات التاريخية، والتى أوجدت الحضارة المصرية بكل ثقافاتها وإنجازاتها، فلا يمكن أن يكون هناك تناقض أو تضاد بين هذه الحقبات.
ولكن، ولأن هناك بعض المصريين كانوا قد تأثروا عن طريق الأسرة أو القبيلة أو الجماعة، أو من خلال بعض العادات والتقاليد والثقافة الخاصة، ناهيك عن دور الإعلام الطائفى بحقبة من الحقبات التاريخية المصرية دون غيرها من الحقبات، كما أن تأثير الفكر الدينى المنغلق على النفس، وغير القابل للآخر بل الرافض للآخر تحت زعم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة دون غيره من البشر، خلط الحضارة ومنتوجها الإنسانى بالرافد الدينى دون غيره من الروافد الصانعة للحضارة.
هنا أصبحت الحضارة والانتماء لديهم هما الدين، وليس الحضارة بمكوناتها المتعددة، ولأن الأديان الأساسية فى مصر هى الإسلام والمسيحية واليهودية وجدنا المتخندقين من هنا وهناك يحاولون صبغ الحضارة المصرية الفرعونية بصبغة دينية.
والطرف الآخر يسقط كل الحقبات ويعتبر أن مصر وتاريخها وحضارتها تبدأ وتنتهى بالحضارة العربية فقط، وهذا بالطبع يرفضه الجانب الأول، وعلى ذلك نرى من يكفر كل الحقبات عدا الحقبة الأخيرة، ونرى من يُسقط الانتماء العربى عن مصر وكأن التاريخ المصرى قد توقف عند الفرعونية وفقط!
بل هناك من يطالب بعودة اللغة القبطية بديلًا للغة العربية، والثقافة بل الحقبة القبطية كلها بديلًا عن الحقبة العربية الإسلامية المعاشة الآن!، وهذا من منطلق «شوفونى» متعصب وخاطئ لا يعرف التاريخ ولا يدرك الواقع، وألا يجب هنا أن نقول إنه يجب أن تعود فرنسا لقبائل الغال مرة أخرى، وأن تعود أمريكا لأصحابها الأصليين.
مصر يا سادة هى دولة خزنت وهضمت تحت جلدها ومسامها التاريخية والأنثربيولوجية تراث وحضارات تاريخ فريد بتنوع حقباته الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية، ولذلك فإن الحقبة العربية الإسلامية لا تعنى الجانب الدينى فقط، ولكن هناك العادات والتقاليد والتاريخ المشترك، وهذا لكل المصريين أيًا كانت الديانة، ويصبح الدين خاصًا لمن يعتنقه.
فالمصرى المسلم أقرب للمصرى المسيحى من المسيحى غير المصرى، لأن تاريخهما ومصيرهما وحياتهما وآمالهما واحدة، والعربى غير المصرى أقرب للمصرى من أى آخر غير عربى، لأن العروبة ليست نتاج الدين الإسلامى، فالعروبة ليست اللغة العربية فقط ولكنها هى كل المشتركات من التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد والآمال والمصير الواحد فى مواجهة كل القوى الاستعمارية على مدى التاريخ التى كانت وما زالت تريد فرض سيطرتها على العرب والعروبة.
كما أن فكرة القومية العربية ليست وليدة الجانب الدينى الإسلامى، فهناك من التيارات الإسلامية ما يرفض فكرة القومية العربية لأنها إبداع، وفكرة القوميين العرب الشوام، وعلى رأسهم عرب مسيحيون، التى كانت فى مواجهة الاستعمار العثمانى الذى كان يحكم باسم الدين.
لذا فالحضارات والحقبات تتواصل وتتكامل ولا تتناقض، فلا مجال لعملية البتر التاريخى هذه غير العلمية وغير الواقعية ولا طائل ولا جدوى من ذلك.
فحقائق الحاضر تؤكد دور مصر العربى فى حسابات الموقع والموضع والثقافة والأمن الاستراتيجى ووحدة المصير والمصالح المشتركة.. حفظ الله مصر وشعبها المصرى العربى.