جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

يا ملطشة القلوب


قاطعت جهاز التليفزيون ولم أعد أشاهد أى شىء منه منذ خمسة أعوام، وعوضًا عن ذلك صرت أعطى أذنى من حين لآخر للإذاعة فتفاجئنى أغنيات مدهشة رائجة، مثل أغنية «يا ملطشة القلوب.. يا جلاب المصايب»، وهى كلمات يفترض أنها فى باب العشق والغزل الرقيق، الأغنية للمطرب مصطفى شوقى، تأليف صابر كمال «جلاب الأغانى».
لنفس المطرب والمؤلف أغنية أخرى يقول مطلعها: «نمرود وضارب عليوى.. وبشغل الحاسة السادسة.. وبطلع القطط الفاطسة»، وأظن أن كلماتها تندرج فى إطار التنجيم أو الخيال العلمى، وقد أمسى تدهور الكلمات فى الأغانى سمة ثابتة شائعة، حتى أن مطربًا مثل حمو بيكا يغنى: «اصحى ياللى أمك صاحبتى.. خالتك كمان كانت فردتى.. وأختك بترقص على مطوتى»! أسمع تلك الكلمات وأقارن بينها وبين كلمات إحدى الأغنيات الروسية التى تقول: «مليون وردة حمراء.. ترينها من نافذة حجرتك.. لأن من يحبك فعلًا.. سيجعل حياته كلها لأجلك زهورًا».
وأدرك على الفور أننا نشهد حالة تدهور غير مسبوق فى مجال الغناء، ليس فقط فيما يخص الكلمات، بل وما يخص الألحان أيضًا التى لم تعد سوى «إيقاعات» متلاحقة بلا لحن، معظمها مسروق من ألحان أخرى هندية أو أوروبية بواسطة الكمبيوتر، ولا تقل أصوات المطربين رداءة عن الكلمات والإيقاعات، إذ إنها تواكب نفس المستوى لكى نحظى بعمل تتكامل فيه الرداءة، ويصبح فيه نجوم الطرب هم: شاكوش ومصطفى شوقى وشطة وبيكا.
ولقد حاولت نقابة الموسيقيين التصدى لظاهرة التدهور الموسيقى هذه، فلم تجد بين يديها من حلول سوى منع هذا المطرب أو ذاك من إقامة الحفلات، وعدم منحه تصريحًا من النقابة بممارسة النشاط، لكن المنع لم يكن قط حلًا لأزمة فنية، خاصة الأغنية، أكثر الأشكال الموسيقية شعبية عندنا وفى العالم، إلا أنها عندنا تكاد أن تكون النشاط الموسيقى الرئيسى المتضخم، بينما هى فى العالم جزء من حركة موسيقية تشمل الموسيقى السيمفونية والموسيقى التصويرية، وموسيقى الباليه، والأوبرا، وغير ذلك، ومن ثم فإنها لا تتضخم هناك كما هى الحال عندنا حتى لتوشك أن تكون كل النشاط الموسيقى، وأما عن مواجهة التدهور فى ذلك المجال فإن سمة طريقًا وحيدًا لا طريق غيره، ليس المنع أو إصدار الأوامر بوقف الحفلات، لكن إشاعة ونشر الموسيقى الجيدة.
وفى زمن سابق كان للممثل المعروف السيد بدير اقتراح رائع بتحويل كل الأغنيات المعروفة المحبوبة إلى موسيقى بحت من دون كلمات، لكى يعتاد المستمع عن طريقها تذوق الموسيقى البحت بحد ذاتها كعمل فنى منفصل عن الكلمات لوضع المستمع على أولى درجات تذوق الموسيقى بصفتها موسيقى.
من ناحية أخرى، فإن هناك دورًا كبيرًا يقع عبؤه على قصور الثقافة المنتشرة فى أنحاء الجمهورية، ليس فقط باستضافة الفرق الموسيقية، بل وبنشر الوعى فى ذلك المجال، وقد لاحظت مثلًا أن معظمنا يستمع للأغنيات ولا يدرى من هو الملحن، يستمع إلى أغنية نجاة الرائعة «بتقول لى بحبك من إمتى»، ولا يهتم بمعرفة أن مبدع هذا اللحن العظيم هو محمد الموجى، كما يستمع معظمنا للحن نجاح سلام «أنا النيل مقبرة الغزاة» ولا يدرى أن الملحن هو العبقرى رياض السنباطى.
نحن بحاجة لوقف التدهور إلى إجراءات كثيرة من ضمنها، وقد يكون من أهمها، العودة إلى حصص الموسيقى فى المدارس وإلى نشاط الفرق الموسيقية، وفى ذلك السياق ربما يكون مطلوبًا من دار الأوبرا أن تتجه بعروضها إلى المحافظات من دون أن تلزم المترددين عليها بارتداء كرافتة لأن الفلاحين لا يرتدون كرافتة.
بذلك قد ننتقل شيئًا فشيئًا من «ملطشة القلوب» إلى عالم آخر نتفادى فيه ما حذر منه ابن خلدون حين كتب فى الفصل الثانى والثلاثين من المقدمة يقول عن صناعة الغناء إنها: «أول ما ينقطع من العمران (يعنى المجتمعات) عند اختلاله وتراجعه»، لدينا شعراء ولدينا ملحنون ولدينا أيضًا أصوات ممتازة فى كل شبر ولكننا بحاجة إلى خطة لإطلاق كل تلك القدرات، لكى نجد شيئًا نسمعه غير «يا ملطشة القلوب.. يا جلاب المصايب».