جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

من يمثل الإثيوبيين؟


الإثيوبيون غلابة، طيبون ومقهورون، داخل بلادهم وخارجها. ولا يمثلهم هؤلاء الذين ينشرون الكراهية، على شبكات التواصل الاجتماعى، سواء كانوا تابعين للجان إلكترونية أو ضحايا لآلة دعائية، يستغلها الائتلاف الإثيوبى الحاكم، لإطالة فترة بقائه فى الحكم. وما رجّحناه، مرارًا، أكدته الخارجية السودانية، فى ٢١ فبراير الماضى، حين اتهمت «مجموعة محددة فى أديس أبابا» بأنها «تقامر بمصالح الشعب الإثيوبى وأمنه واستقراره، لخدمة مصالح شخصية».
المواطنة الإثيوبية «أجيتو إيديو جوديتا»، التى يلقّبها الإيطاليون بـ«ملكة الماعز»، واحدة من هؤلاء الطيبين المقهورين. وبعد ٤ أشهر تقريبًا من مقتلها، فى إيطاليا، فوجئنا بهيئة الإذاعة البريطانية، بى بى سى، تحتفى بها، فى تقرير طويل عنوانه «قصة لاجئة إثيوبية قُتلت بعد أن أعادت الحياة إلى بلدة إيطالية»، بينما لم تلتفت لها الحكومة الإثيوبية، طوال الأشهر الأربعة، ولم تهتم بها وسائل إعلامها أو لجانها الإلكترونية.
لم تكن حالة «جوديتا» غير نموذج، تكرر مئات، بل آلاف المرات. ولعلك تتذكر أننا كتبنا، فى ٣ يوليو الماضى، عن معاناة الإثيوبيين من القمع وسوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصراعات الداخلية المشتعلة. وفى المقال، الذى كان عنوانه «الشعب الإثيوبى ينتظر من يحنو عليه»، أوضحنا أن الصدامات، التى تفتعلها الحكومة الإثيوبية، لن يحتمل نتائجها سوى ذلك الشعب المقهور داخل بلاده وخارجها.
الشركات متعددة الجنسيات تسيطر على ٨٠٪، وربما أكثر، من الأراضى الزراعية فى إثيوبيا، وعندما سمعت جوديتا، سنة ٢٠١٠، أن الحكومة تنوى الاستيلاء على المساحات المحدودة من الأراضى المتبقية فى قريتها، نظمت احتجاجات شعبية، فأصدرت السلطات قرارًا باعتقالها، ما اضطرها إلى الفرار إلى إيطاليا. وهناك، سمعت من صديق عن جهود إنقاذ ماعز موكينى، فقررت أن تربى بضعة رءوس، وانتقلت إلى قرية فراسيلونجو، التابعة لمقاطعة ترنتو، حيث تعيش أقلية ناطقة بالألمانية، منذ العصور الوسطى. ولكونها نشأت فى عائلة من الرعاة، سرعان ما أقامت مزرعة للماعز، سمّتها «كابرا فيليشى»، أو المعزة السعيدة.
ذاعت شهرة تلك المزرعة لدرجة أن كثيرين من سكان الأقاليم المجاورة، كانوا يذهبون إليها خصيصًا بحثًا عن منتجاتها. وأصبحت جوديتا جزءًا من المجتمع المحلى فى المنطقة الشمالية من ترينتينو، وأصبحت بمزرعتها رمزًا إيجابيًا للاندماج وصناعة الأغذية. وأسهمت جهودها فى زيادة أعداد ماعز موكينى، التى تلد مرتين سنويًا، وكانت تستضيف الطلاب المهتمين بتعلم الرعى، وتنظم ورش عمل للأطفال عن طرق الزراعة التقليدية.
نجاح جوديتا أغضب بعض سكان المنطقة، واعتادت جوديتا أن تسمع عبارة «عودوا إلى وطنكم»، التى كانت تظنها مجرد مواقف فردية، غير أن الاعتداء اللفظى تطوّر إلى اعتداءات فعلية على مزرعتها، و... و... أواخر ديسمبر الماضى، وجدها جيرانها، مقتولة فى غرفة نومها. فى البداية رجحت جريدة «لاستامبا» الإيطالية أن «ملكة الماعز» راحت ضحية جريمة قتل عنصرية. ثم قيل، لاحقًا، إن القاتل لاجئ غانى اسمه أدامز سليمانى، ٣٢ سنة، كان يعمل فى مزرعتها، وإنه بسبب تأخر راتبه اعتدى عليها بمطرقة حتى لقيت مصرعها، ثم قام باغتصابها!.
خبر مقتل جوديتا تصدر عناوين غالبية الصحف الإيطالية مصحوبًا بصورها مع الماعز. وتجمّع الآلاف فى ميدان ترينتو العام فى مسيرة بأضواء المصابيح. وأعرب مكتب المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين فى إيطاليا، عن الألم العميق لموتها العنيف، وذكرت المفوضية أنها «تأمل فى أن يتم تذكر أجيتو إيديو جوديتا والاحتفاء بها كنموذج للنجاح والاندماج، الذى سيلهم اللاجئين الذين يقاتلون لإعادة بناء حياتهم، وذلك على الرغم من نهايتها المأساوية».
حدث ذلك كله، بينما كانت الحكومة الإثيوبية تخوض حربًا مفتوحة ضد أكثر من ثلثى شعبها، وتواصل استفزازاتها للسودان بسبب خلاف حدودى مفتعل، وتواصل عدوانها على إقليم تيجراى، الذى بدأ فى ٤ نوفمبر الماضى، وراح ضحيته آلاف المدنيين الأبرياء، ودفع عشرات الآلاف للجوء إلى الأراضى السودانية، هربًا من الجرائم الوحشية التى ارتكبها الجيش الإثيوبى. كما لم تتوقف الحملات على منطقة أوروميا التى شهدت عدة مجازر ضد مدنيين، جرت إحداها الأسبوع الماضى وخلّفت عشرات القتلى. إضافة إلى المجازر التى يشهدها إقليم بنى شنقول، وهجمات الجيش الإثيوبى على إقليم «عفار» التى اندلعت الجمعة الماضى، واستمرت حتى أمس الأول الثلاثاء، وأسفرت عن مقتل المئات.
الحملات العسكرية، التى تنفذها الحكومة الإثيوبية ضد شعبها، لا تزال مستمرة، وأحداث العنف والاشتباكات الدموية آخذة فى التصاعد، ولا نعتقد أن معاناة الشعب الإثيوبى، داخل بلاده أو خارجه، قد تتوقف حتى يحرر بلاده من قبضة هؤلاء المختلين عقليًا، أو العملاء، الذين باتت الإطاحة بهم شرطًا أساسيًا لاستقرار الأوضاع، ليس فقط فى تلك الدولة الفقيرة البائسة، ولكن أيضًا فى منطقة القرن الإفريقى، التى ما عادت تحتمل مزيدًا من الاضطرابات أو القرف.