جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المؤمن والإيمان




نحن على اتفاق منذ فترة أن نفكر بهدوء، وأن نتدبر آيات القرآن الكريم بتعقل، ولكى يكون التفكير علميًا والتدبر منطقيًا، يجب أن نقرأ القرآن وكأن الله أنزله الآن، ثم يجب أن نفتح قلوبنا له، له وحده سبحانه، دون أن تكون علينا أى مؤثرات من ابن فلان وابن جهمان، عندئذ ستتذوق حلاوته، وستنكشف لنا معانيه، فرب العزة قال إن التدبر يجب أن يكون من أصحاب القلوب المفتوحة «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، افتح يا صديقى مغاليق قلبك، ثم اقرأ.
هل سبق وأن قرأت فى القرآن أن الله خاطب أهل الكتاب باعتبارهم من الذين آمنوا؟ ستقول لى وأنت تسترجع ما حفظته: نعم، هذا بالنسبة للجيل الذى كان معاصرًا لأنبيائهم وآمن بهم، فهم بهذه المثابة من المؤمنين، وهذا شىء طبيعى، لكن الذين حرَّفوا بعد ذلك كتبهم هؤلاء من الضالين والمغضوب عليهم، ولا يمكن بالقطع أن يصفهم الله بالذين آمنوا، ولكنى سأقول لك: نعم يا صديقى إن الذين حرَّفوا دينهم، ونسبوا إلى الله أشياءً لم يقلها، هذا المُحَرِّف ليس مؤمنًا لأنه لو كان مؤمنًا ما حرَّف، هذا يريد أن يغطى على الحق، هذا يريد أن ينتصر لهواه، هذا يريد أن يُبْعِدَ المؤمنين عن الرسالة التى جاء بها رسولهم، هذا يا صديقى للأسف الشديد نسب إلى رسوله أشياءً لم يقلها، ثم قال للناس: هذا هو ما قاله رسولنا، فصدَّقه أولئك الذين آمنوا بهذا الرسول، لأنهم كانوا يُحسنون الظن به.
أنا معكم جميعًا أن هذا حدث ويحدث، ولا يظن أحد أن الشيطان سيتركنا نتجه إلى صراط الله دون أن يقعد لنا على هذا الصراط ليجعلنا ننحرف عن مساره المستقيم، بل إن الله أخبرنا بذلك، وحذرنا، ونبهنا، وقال لنا فى كتابه الكريم إن إبليس توعدنا، وقال: «لأقعدن لهم صراطك المستقيم» أى أنه لن يجلس على طريق الشرور، فهذا تركه للنفس البشرية، ولكنه سيقعد لنا على طريق الدين، ليجعلنا ننحرف عنه، وإذا ظننت أنه سيقول لنا: هيا انحرفوا، فستكون من الغافلين أو الجاهلين، إبليس سيرسل لنا أتباعه من شياطين الإنس، يرتدون العمامة ويطيلون اللحى، وسيوحى لهم زخرف القول، ثم سيأخذونك برفق بعيدًا عن صراط الله وأنت تُحسن الظن بهم، هكذا حدث مع كل أتباع الرسالات، كلنا هذا.
ولكن اعذرنى فقد استطردت إلى موضوعات أخرى لم أكن أقصد التحدث فيها الآن ولكن الشجون التى تحتوينى، والحزن الذى كاد أن يُفتت قلبى هو الذى دفعنى لهذا الاستطراد، ولذلك فلنعد إلى ما كنّا نتحدث فيه، حضرتك قلت لى: نعم، الله خاطب أتباع الرسل الذين آمنوا به وكانوا معاصرين لهم بـ«يا أيها الذين آمنوا» ولكن الذين جاءوا بعد ذلك خاطبهم بكلمة «أهل الكتاب» وليس بالذين آمنوا.
إذن يا صديقى سأسألك: أنا معك، كما استطردت معك فى الحديث أن شياطين الإنس حرَّفوا كتبهم، فهل كانت تلك الكتب محرفة وقت نزول القرآن، أم أنها حُرِّفت بعد ذلك؟
أظنك ستقول: لقد كانت محرفة بالفعل وإلا لماذا أرسل الله سيدنا محمد برسالة الإسلام، ألم يكن من مقاصد الإسلام أن يعود الناس إلى المحجة البيضاء وإلى صراط الله بعيدًا عن التحريف الذى دخل الكتب السابقة.
ولكنى سأقول لك: اتفق معك، كانت مُحرفة، ولكن هل أهل الزمن هم الذين حرَّفوا كتبهم؟
ستقول: لا لقد كانت محرفة من قبل، ولكنهم هم الذين حُرّفت عليهم كتبهم.
سأقول: ولكن الله يا صديقى خاطبهم وقت تنزيل القرآن قائلًا لهم: «يا أيها الذين آمنوا»، وقال لهم ما معناه إن لكم أجرًا على إيمانكم بالله ورسوله الذى جاء إليكم والكتاب الذى أنزل عليه، ولو آمنتم بالرسالة التى أنزلت على محمد- صلى الله عليه وسلم- ستأخذون أجرًا مضاعفًا.
اسمع يا صديقى قول الله تعالى فى سورة الحديد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
الله يقول لهم يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله، ثم ماذا؟ ثم آمنوا برسوله، ولكن ما هو أجرهم إذا آمنوا برسوله؟ يؤتكم كفلين، أى نصيبين، من رحمته، أما الرحمة الأولى فهى لأنهم آمنوا بالله ورسوله الذى أرسله الله إليهم، والرحمة الثانية ستكون من نصيبهم إذا آمنوا برسالة الإسلام التى تنزلت على سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام.
اعلم أنك ستسألنى يا صديقى: من الذى قال لك إن الذين آمنوا فى هذه الآية هم أهل الكتاب؟! إنهم المسلمون الذين آمنوا بالإسلام والرسول.
حينئذ سأبتسم وسأقول لك: هل تظن أن الله سبحانه سيقول للذين آمنوا بالرسول، آمِنوا بالرسول؟! الله هو الحكيم يا صديقى، ولكن هناك دليل يثبت أن الله يخاطب فى هذه الآية أهل الكتاب.
اقرأ يا أخى الآية التى تلى الآية السابقة وهى آخر آية فى سورة الحديد، ستسمع قول الله «لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»، هذه الآية معناها باختصار أنكم يا أهل الكتاب لا تملكون توزيع رحمة الله على من تريدون، ولكن الفضل كله بيد الله، بيد الله وحده، يؤتيه من يشاء، الأمة التى تظن أنها وحدها هى الأمة الناجية أو الفرقة الوحيدة التى ستدخل الجنة هى أمة واهمة ظنت أنها تتحكم فى فضل الله.
هذه هى الخاطرة الأولى عن «بعض» الذين آمنوا وسنوالى تباعًا الحديث عن الآخرين إن شاء الله.