جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

قناة السويس.. والبديل المنتظر!


بجنوح السفينة البنمية المشئومة، ثم تعويمها، ومع تعليق الملاحة فى قناة السويس ثم استئنافها، تأكدت أهمية القناة لدى العقلاء، وتجدّدت عند غيرهم أحلام إيجاد بديل، روسى أو إسرائيلى أو هندى أو صينى. وساءت حالة هؤلاء، للدرجة التى جعلتهم يشيعون أو يتوهمون أن هذا البديل سيكون خليطًا من الخطوط الملاحية والقطارات وأنابيب النفط والغاز وقناة موازية!
التحية واجبة، قبل كل شىء، لرجال هيئة قناة السويس، الذين قاموا بعمل خارق. وتكفى الإشارة إلى أن شبكة «الجزيرة» القطرية، نشرت السبت الماضى، تقريرًا عنوانه «توقعات بإغلاق قناة السويس لأسابيع»، رجّحت فيه أن «تؤدى حالة الازدحام إلى منع عودة الحاويات الفارغة إلى آسيا، وبالتالى تفاقم الأمر». وفى اليوم نفسه، نقلت جريدة «التايمز» البريطانية، The Times، عن «خبراء» أن تعويم سفينة الشحن العملاقة، التى تسببت فى إغلاق قناة السويس، قد يستغرق أسابيع، ما سيؤدى إلى أزمة فى الشحن الدولى ونقص محتمل فى السلع الأساسية والوقود.
بأيدٍ مصرية، عادت الأمور إلى مسارها الطبيعى، واطمأن العالم على شريان تجارته وبضائعه واحتياجاته، بينما كان ما يشغل البعض، ممن نعرفهم جيدًا، هو «البدائل المطروحة لوقف الخسائر وتجنبها مستقبلًا». وعلى الخط، دخلت شركة «روس أتوم» الحكومية الروسية للطاقة الذرية، وقامت بالدعاية لمسار بحر الشمال، باعتباره منافسًا لقناة السويس. وما يدعو للأسف، هو أن صحفًا، توصف بأنها رصينة أو عريقة، تعاملت معها بقدر من الجدية، ولم يردعها أنها ظهرت واختفت، وأعيد تدويرها مئات المرات، طوال نصف القرن الماضى!
لو كانت هناك بدائل مطروحة أو ممكنة، لظهرت قبل شق القناة، أو على الأقل بعد أن قام الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بتأميم القناة سنة ١٩٥٦، وهو القرار الذى كان بداية انهيار الإمبراطورية البريطانية، وبسببه «تحول الأسد الإمبراطورى إلى مجرد نمر من ورق»، بحسب تعبير المؤرخ والباحث البريطانى نيال فيرجسون، المحاضر فى جامعة هارفارد.
الطريف، أن مجلة «بيزنس إنسايدر»، Business Insider، كشفت الخميس الماضى، عن وثيقة سرية، أو كانت كذلك، تعود إلى سنة ١٩٦٣، تفيد بأن الولايات المتحدة كانت تعتزم استخدام قنابل نووية، لحفر قناة تصل بين خليج العقبة والبحر المتوسط، تحايلًا على تكاليف أعمال الحفر التقليدية الباهظة. واستندت فى هذا التصور إلى دراسة أعدها مركز «لورانس ليفرمور الوطنى»، أكد فيها أن تلك القناة ستكون لها «أهمية استراتيجية كبيرة ويمكن أن تكون بديلًا عن قناة السويس، وقد تسهم فى إنعاش الاقتصاد الخاص بالمناطق المجاورة لها».
العواقب السياسية، كما ذكرت الوثيقة، جعلت الولايات المتحدة تتراجع عن تلك الفكرة، التى لا توصف بأقل من أنها مجنونة، والتى تبعتها أفكار أو مشروعات لا تقل جنونًا، مثل مشروع «قناة السويس الروسية»، وهو الاسم الذى أطلقته جريدة «واشنطن بوست» على ذلك الطريق أو المسار التجريبى المعروف باسم «طريق القطب الشمالى» أو «الممر الشمالى الشرقى»، بزعم أنه قد يكون بديلًا لقناة السويس الأصلية.
مع انطلاق سفينة بضائع تابعة لشركة «ميرسك» الدنماركية، من ميناء فلاديفوستوك شرقى روسيا، زعمت جريدة «واشنطن بوست»، فى ٢٤ أغسطس ٢٠١٧، بأن ثورة جديدة تنتظر عالم النقل، تُذكّر العالم بالثورة التى أحدثها افتتاح قناة السويس سنة ١٨٦٩. وبعد سنة، تحديدًا فى ٩ سبتمبر ٢٠١٨، نشرت الجريدة نفسها تقريرًا عنوانه: «قناة السويس الروسية؟ السفن بدأت تستخدم القطب الشمالى الأقل تجمدًا، بفضل تغير المناخ».
هذا الطريق أو المسار التجريبى، جرت محاولات كثيرة لتجربته، قبل بداية القرن العشرين، وكلها باءت بالفشل، لأن التغلب على الثلوج التى تعترضه يتطلب أن ترافق أى سفينة كاسحة جليد نووية «باهظة التكلفة»، بالإضافة إلى البيئة شديدة الصعوبة فى القطب الشمالى، الذى تنخفض فيه درجة الحرارة إلى أقل من ٥٠ تحت الصفر، الأمر الذى يعطل عمل المحركات.
لهذه الأسباب، وغيرها، يستبعد خبراء التجارة الدولية أن تكون لتلك القناة جدوى اقتصادية مقبولة، تدفع شركات الشحن إلى استخدامها كمسار بديل عن قناة السويس. أما أكثر التوقعات تفاؤلًا، فجاء فى تقرير أصدرته «مدرسة كوبنهاجن للأعمال» سنة ٢٠١٦، راهن على انخفاض التكلفة، سنة ٢٠٤٠، لو استمر تلاشى الغطاء الجليدى بالنسب الحالية نفسها.
ظهور المهدى المنتظر، إذن، قد يكون أقرب من ظهور ممر بديل لقناة السويس، التى ستظل أقصر وأرخص الطرق البحرية بين أوروبا وآسيا، لمدة ١٠٠ سنة مقبلة، على الأقل. وعليه، ولأن السفينة البنمية المشئومة جنحت فى الجزء الجنوبى، الذى لا يوجد فيه غير ممر ملاحى واحد، ولأن تعقيدات فنية هائلة أحاطت بعملية تعويمها، يكون الدرس المستفاد هو ضرورة أن نبدأ فورًا فى شق الممر الموازى، الذى سبق أن تم تأجيله، بزعم عدم جدواه الاقتصادية!