جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أنا نظير جيد روفائيل.. الحياة المدنية لـ«البابا شنودة» خارج الدير

البابا شنودة
البابا شنودة

«رماني الله في الدنيا غريبًا.. أُحلق فى فضاءٍ مُدلهم».. كلمات سطرها البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث بإحدى قصائده، لعلها هي الأكثر تعبيرًا عن حياته التي جمعت بين نقيضي الوحدة والرهبنة من ناحية، والتحليق في العالم والالتحام بقضايا مسيحيي مصر والعرب في فترة جلوسه على الكرسي البابوي.

وفي شهر مارس تحديدًا يوم 17 عام 2012 رحل بابا العرب بمقره البابوي بالقاهرة، بعدما أعلن الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدس وقتها، وفاة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، عن عمر 89 عامًا.

وتلاحم الآلاف لتوديعه في جنازته المهيبة التي وصفت بأنها الأكثر حضورًا وتجمعًا بشريًا في العصر الحديث بعد جنازة الرئيس جمال عبد الناصر. وهنا أبرز محطات حياته.

◄ سنواته الأولى وعقل سابق زمنه

في منزل ريفي لعائلة ميسورة الحال بقرية "سلام" بمحافظة أسيوط، ولد نظير جيد روفائيل، في 3 أغطسس عام 1923، كان الابن الأصغر بين 7 أشقاء 5 فتيات وولدين، وأصيبت أمه "بلسم" بحمى النفاس، وتوفيت بعد ولادته بيومين قبل حتى إرضاعه، تولت شقيقته ووالده بعدها رعايته

لكن لم يفارقه الشعور بالحرمان واليُتم في حياته، حتى أنه تحدث عنه في عدة مناسبات، ودوَن مشاعره بكلمات مُلهمة حين كتب رثاءًا قائًلا: "أحقا كان لي أم فماتت.. أم إني قد خُلقتُ بغير أم.. رماني الله في الدنيا غريبا.. أُحلق فى فضاءٍ مُدلهم"

درس "السنة التحضيرية" أي العام السابق للمرحلة الإبتدائية، في أسيوط، وعاش مع أخيه الأكبر في دمنهور وحدهما، وعلى خلاف أقرانه من الصغار، كان يميل إلى الوحدة والتأمل، حتى أنه في المرحلة الابتدائية كان قارئًا للجرائد، ودائم الاتصال مع الأشخاص الأكبر سنًا، من أقران شقيقه، ما جعل عقله ناضجًا ومنشغلًا بالتفكير طوال الوقت، يقول عن هذه المرحلة: "عشت طفولتي المبكرة بلا صداقة ولا لعب مثل باقي الأطفال، وكنت أسير طريق طويل طويل إلى مدرستي وأفكر.. متى ينتهي وأصل". بداية ميوله الروحية اصطحب الأخ الأكبر "روفائيل" كل من شقيقيه الأصغر شوقي، ونظير ليعيشا معه في مدينة دمنهور مقر عمله، وقتها كان نظير في مرحلة الروضة التي اتخذها في سنة واحدة وكانت تسمى "التحضيري" في ذلك الوقت. عادوا إلى أسيوط كان وقتها "نظير" في السنة الرابعة الابتدائية، ومنذ صغره سلك طريقًا مختلفًا وكان على علاقة وثيقة بالكنيسة.

يقول في الفيلم الوثائقي "همسات حب" عن حياته: «كنت أتمتع بقداسات الأنبا مكاريوس الثالث، واستمع إلى عظات الأرشيدياكون إسكندر حنا». وظل متذكرًا الكثير من تفاصيل زيارته لدير درنكة بأسيوط، في احتفالات السيدة مريم العذراء

◄ الدراسة الجامعية وحياة سياسية لم تكتمل

كانت علاقة نظير بالدراسة إيجابية دائمًا، وفي عام 1943 التحق بجامعة فؤاد الأول بمنحة مجانية تقدم للمتفوقين فقط، ودرس بكلية الآداب قسم التاريخ، كما درس أيضًا في الكلية الإكليريكية، ليجمع بين الدراستين العلمية والروحية.

التقى خلال المرحلة الجامعية بأسماء ذات نصيب من الشهرة الأدبية والعلمية مثل مراد وهبة، وأنيس منصور، ومكرم عبيد باشا، الذي شجعه على الالتحاق بالكتلة الوفدية، لكنه لم يكمل في هذا الاتجاه كثيرًا، فسرعان ما تركها وتفرغ لدراسته في الجامعة ليتخرج منها بتقدير ممتاز

◄ الكتابة في حياة البابا الراحل

عُرف عن البابا شنودة حبه للشعر والكتابة، وعمل محررًا ثم رئيس تحرير لمجلة مدارس الأحد، وكتب قصائد فيها وانتظم على المقالات التي كانت بوابته لنشر أفكاره عن الخدمة والكنيسة وضرورة التجديد في التعليم، وفي الوقت نفسه كان يتابع دراساته العليا في علم الآثار؛ بخلاف خدمته في الكنيسة وأداؤه الخدمة العسكرية. حياة الدير والإعتكاف لم يكن قرار الرهبنة فجائيًا كما سبق وقال في حواراته، بل كانت الوحدة وترك الناس، بوابة جعلت الرهبنة اختياره الأول بلا تردد. توجه إلى دير العذراء بالسريان عام 1954، ورُسم راهبًا باسم أنطونيوس السرياني، في يوليو 1954، واصفًا طريق الرهبنة بالنقي والأكثر حرية. كرس وقته للصلاة والخلوة الروحية في مغارة ملحقة بمبنى الدير، ثم اختير ليكون أسقفًا للمعاهد الدينية والتربية الكنسية، وكان أول أسقف للتعليم المسيحي وعميد الكلية الإكليريكية، في سبتمبر 1962. كتب خلال فترة رهبنته واحدة من أجمل قصائده "سائح في البيداء وحدي"، وصف خلالها حياة الوحدة والسكون واشتياقه الدائم للنعيم بمعية الرب وحبه

◄ وفاة البابا كيرلس ومرحلة جديدة

حين توفي البابا كيرلس يوم الثلاثاء 9 مارس 1971 ـ كانت الكنيسة في حاجة إلى بطريرك بقوة البابا كيرلس في روحانيته مع تعليم جديد يتناسب وطبيعة المرحلة الزمنية والانفتاح الذي فرضته ظروف الحياة وقتها.

هنا جاءت لحظة انتخابات البابا الجديد يوم الأربعاء 13 أكتوبر، ثم جاء حفل ترسيم البابا (شنودة) للجلوس على كرسي البابوية في الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة في 14 نوفمبر 1971.

أدرك الشعب المسيحي أنه أمام الرجل المناسب لزمنه، وسرعان ما أثبت قدرته على تطوير الكنيسة بالتعليم الذي كان قضيته الأولى والأهم، بخلاف التوسع في أعداد الكنائس بمصر وخارجها لتتناسب مع أعداد المسيحيين حتى المهاجرين منهم حول العالم.

شكل البابا شنودة نقطة محورية فاصلة في الخدمة والكنيسة بين زمنين ما قبله تميز بالروحانيات وما بعده بالعلم فجمع هو الاثنين معًا

وأعاد انعاش الحياة الكنسية، حيث سيم أكثر من 100 أسقف عام، وما يزيد عن 400 كاهن وعدد غير محدود من الشمامسة في القاهرة والإسكندرية وكنائس المهجر. وكان أول بطريرك يقوم بإنشاء العديد من الأديرة القبطية خارج جمهورية مصر العربية، وأعاد تعمير عدد كبير من الأديرة التي اندثرت.

◄ البابا والشعراوي

هناك جانب هام في حياة البابا شنودة وهو علاقته بالشيخ محمد متولى الشعراوى رحمه الله، التي حملت الكثير من الود والاحترام بين كلاهما، وهذا ما ظهر خلال اللقاءات المتعددة التي تبادلا فيها الضحك والنقاشات الهامة. حين مرض الشيخ الشعرواي، صلى البابا شنودة من أجله، واحتفظ بصورته أمام مكتبه الخاص، وأوقد من أجله شموع الطلبات، متمنيًا شفاؤه وعودته لمصر.

◄ البابا الصحفي

تميز قلم البابا الراحل بالنزاهة والانضباط، وكان دائمًا ما يجد في العمل الصحفي غاية سامية، ويعتبر الكتابة رسالة وأمانة.

وكتب ما يقرب من 140 كتابا، بخلاف مئات المقالات والقصائد والأشعار، التي لحنت معظمها إلى ترانيم كنسية. ونعت رحيله نقابة الصحفيين، وأكدت أن مصر فقدت رمزًا، أدى رسالته الروحية وواجبه الوطنى على أكمل وجه.