جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

محمود خليل يكتب: أنين «الشكوى» وخرائط «الدمع» على أضرحة ومقابر الراحلين


على الضفة الأخرى من الميدان الذى ينهض فيه المبنى الشامخ للجامع الأزهر ترتفع هامة مسجد الحسين الذى بناه الفاطميون، وبقى رمزًا على مكانة الراحلين فى حياة المصريين، سواءً الراحلين من أولياء الله الصالحين، وفى مقدمتهم أهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، وفى مقدمة أهل البيت الحسين بن على، رضى الله عنهما، أو الراحلين من الأهل والأقارب.
احترام الراحلين وتوقيرهم والسعى إلى زيارة مقابرهم مثّل سمة أساسية من سمات الشخصية المصرية.. ومثل المصريين فى ذلك كمثل كل الشعوب القديمة التى ترتبط بموتاها، وتعتبر عظام الراحلين جزءًا من مفهوم الوطن.. فالوطن بالنسبة للمصرى لا يتحدد فقط فى المكان الذى يعيش ويسكن فيه، بل يتعلق أيضًا بالمكان الذى ترقد فيه عظام موتاه.
ارتباط المصريين بالراحلين من أولياء الله والأقارب والأحباب يمثّل واحدة من آليات الشكوى والتنفيس والسعى إلى تخفيف حدة الشعور بالظلم الذى يحيط بهم، فكلما زادت المظالم المحيطة ولّد ذلك لدى البعض شغفًا بزيارة أهل البيت أو زيارة المقابر، وثمة حديث نبوى شريف يردده المصريون فى هذا السياق: «إذا ضاقت بكم الصدور فعليكم بزيارة القبور»، وهناك مثل مصرى شهير يقول: «من زار الأعتاب ما خاب».
نشطت عادات زيارة الأعتاب الشريفة لأضرحة أهل بيت النبى خلال فترة الحكم العثمانى كجزء من النشاط الذى شهدته حركة التصوف خلال ذلك العصر، كما تكرست عادة زيارة مقابر الأهل والأقارب، سواء فى المواسم والأعياد، أو فى الأيام العادية، خصوصًا أيام الخميس، ولم يكن الأمر يقتصر لدى هذه الأجيال من المصريين على الزيارة، بل أحيانًا ما كان يمتد إلى المجاورة لأولياء الله الصالحين، أو المبيت حيث يرقد الأحباب فى قبورهم.
عاش المصريون أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان يعانون من مظالم المماليك، وما يفرضونه عليهم من ضرائب ومغارم، وعندما دخل العثمانيون إلى مصر أصبحت المظالم ثنائية المصدر، حيث تكالب عليهم كل من الترك والمماليك وأرهقوهم بالمكوس وشكلوا مصدر إفقار وإذلال متواصلًا لهم.
تكالبت ظروف أخرى على المصريين فى ذلك العصر لتجعل من حياتهم مظلمة كبرى.. فإلى جوار الاستنزاف الاقتصادى الممنهج من جانب السلطة، مثّل جفاف النيل وشح الفيضان مصدرًا آخر لأحزان المصريين، فمع انحسار مياه النهر الخالد تقل الأرزاق وتختفى السلع الأساسية من الأسواق، وإن وجدت فبأسعار فاحشة لا يقوى عليها إلا أولو العزم من أصحاب الجيوب المنتفخة.. وهناك أيضًا الأوبئة التى كانت تضرب قرى مصر وحضرها بين الفينة والأخرى، مثل الطواعين والكوليرا، وكانت تحصد أرواح المئات وتهد صحة الآلاف، وكان الوباء يأتى مصحوبًا بالغلاء مما يزيد من قسوته على البشر.
ظروف الظلم والشح والمرض كانت تعمق من علاقة أهل الدنيا من المصريين بأهل الآخرة، ولم تكن المسألة تقتصر على القرب النفسى، بل امتدت إلى الحرص على القرب المكانى.. فقد بدأ المصريون فى ذلك العصر فى بناء مساكنهم إلى جوار الأضرحة والمقابر، بل واتخذ بعضهم من القبور مساكن.
فى المعتقد الإسلامى للمصريين يؤمن أغلبهم بأن الآخرة خير من الأولى، وأن ما عند الله خير وأبقى، وأن الأموات يحيون فى عالم أفضل، لكن ثمة تصورًا آخرًا عجيب لديهم يذهب إلى أن الأموات يملكون حل المشكلات التى يواجهها الأحياء.. ومن اللافت أن بعض المصريين كانوا ينظرون إلى الأولياء فى ذلك العصرين، المملوكى والعثمانى، كحكام فوق الحكام، وربما يكون وصف «رئيسة الديوان» الذى خلعه المصريون على السيدة زينب بنت على، رضى الله عنهما، قد ظهر فى ذلك العصر، حيث يردد بعض أحباء السيدة أن مجلس الوالى كان ينعقد فى بيتها، وكانت تشير عليه بما يفعل، لذا فقد لقبت أيضًا بـ«المشيرة».
وليس ثمة من خلاف حول أن لواذ المصريين بأهل البيت يعكس تقديرًا ومحبة لعطرة النبى، صلى الله عليه وسلم، لكنه فى جانب منه يعبّر عن نوع من الاستنجاد بهم وبغيرهم من الأولياء من أجل حل المشكلات، فهم أصحاب الشفاعة القادرون على التدخل لدى ولاة الأمر ليحلوا مشاكل الرعية ويرفعوا مظالمهم عنها.. الواقفون أمام مقصورة الأولياء ينتابهم شعور بأنهم داخل ديوان المظالم الذى يصح أن يعرضوا فيه شكاواهم وإحنهم ومحنهم ليتدخل أهل البيت أو أهل الله من أجل حلها.
وفى سياق الارتباط العميق بأولياء الله من أهل البيت والصالحين اهتم المصريون خلال الحكم العثمانى بالاحتفال بالموالد الشريفة، وعلى رأسها مولد النبى، صلى الله عليه وسلم، واعتبر بعض فقهاء ذلك الزمان أن الموالد «بدعة محببة»، خصوصًا الاحتفال بمولد النبى.. وقد توسع المصريون كثيرًا فى هذه الاحتفالات وربطوها بالعديد من طقوس البهجة التى يعيشون حالة حرمان منها بقية العام، مثل بهجة الطعام اللين والشراب العذب، وبهجة السفر والترحال من مولد إلى آخر، وبهجة الطرب بالاستماع إلى المنشدين، ثم بهجة الانخراط فى طقوس «الزار الجماعى» الذى ينخرط فيها زوار المقام.
شكّل الشغف بزيارة مقابر الأهل والأقارب أيضًا جانبًا من جوانب الثقافة المصرية التى ترسخت فى العصر العثمانى، ومؤكد أن هذا الجانب يجد جذوره فى العصور التى سبقت العثمانيين.. وشكلت آلية استرجاع الذكريات مع الراحلين والبكاء عليهم آلية من آليات التنفيس عن النفس المصرية التى أرهقتها المظالم، ولم تكن زيارة القبور- كما هى الحال فيما يتعلق بزيارة الأولياء- تخلو من طقوس البهجة التى تتحقق عبر التجمع العائلى «الأصول والفروع»، حيث تمكنت عظام الموتى من جمعهم فى صعيد واحد بعد أن فرقتهم دروب الحياة، ولم تكن جلسات التجمع تلك تخلو من متعة النميمة وتناول الأطعمة والمشروبات، وقضاء يوم خارج المنزل.
زيارة الأضرحة ومعاودة الموتى شكّلت بالنسبة للسيدات، على وجه الخصوص، متنفسًا مهمًا فى العصر العثمانى، حيث كانت تتاح لهن فرصة الخروج من البيوت والانطلاق إلى أضرحة أهل البيت والأولياء الصحالين والبكاء على الأعتاب والشكوى من ظلم الحياة والدعاء والتشفع بأهل البيت إلى الله قاضى الحوائج.. ولم يكن الأمر يختلف بالنسبة لزيارة المقابر، حيث كانت من الزيارات التى يسمح للمرأة فيها بالخروج واللقاء مع سيدات العائلة الأخريات، ولكن فوق تراب المقابر حيث ترقد عظام الموتى أسفل منهن.
وما بين ثنائية «الشكوى» لأهل بيت النبى وأولياء الله و«البكاء» على الراحلين تشكّل مرتكزان مهمان من مرتكزات الثقافة التى صاحبت المصريين خلال القرون التى حكمهم فيها العثمانيون، نعم كان لهما جذور فى العصور السابقة، لكن الثنائية تمددت وتوسعت فى معية الأتراك، كما أنها لم تختف بسقوط الخلافة العثمانية، بل ما زالت آثارها باقية فى الواقع المعاش.