جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عندما تعيش على أنك مصطفى وأنت إبراهيم!




هل تعرفت إلى إنسان عاش على يقين بأنه مصطفى وهو إبراهيم؟! أنا تعرفت إلى أشخاص من هذا النوع موهوبين، وعاشوا من غير أن يعلموا أن الطبيعة اختصتهم بعنصر نادر مشع، وانقضت حياتهم من دون أن يكتشفوا جوهرهم، مثل أرض لا تدرى أن فى بطنها عروقًا من الذهب، أو مثل شخص عاش على أنه مصطفى وهو إبراهيم.
وكنت أشعر بالأسى حين ألقاهم وألمس مواهبهم فى أشياء صغيرة وهم يواصلون حياتهم فى ممرات مجاورة لحقيقتهم، يحدث ذلك لأن الموهبة تحتاج إلى ضربة فأس تكشف عنها، إما بالمصادفة أو أن يكون فى الظروف المحيطة ما يساعد على اكتشاف الموهبة، لكن ما هى هذه الموهبة التى يدور الحديث عنها؟ وكيف حاول العلم أن يعرفها؟
بهذا الصدد يشير فرانسيس جالتون، فى كتابه «العبقرية الوراثية»، إلى أن الموهبة «عرق وراثى يتم تناقله»، لكن العلم نحَّى تقريبًا تلك النظرة استنادًا إلى أن أحدًا من أبناء الموهوبين العظام، شكسبير وتولستوى وغيرهما، لم يرث موهبة والده، وحاول البعض أن يربط بين الموهبة والخلل النفسى والجنون، لكن طبيب النفس البريطانى «هافيلوك آليس» أجرى دراسة شملت ألف حالة من المبدعين، وتبين منها أن عدد من يوصف بالمرضى بينهم لم يتجاوز نسبة لا تصل حتى إلى خمسة بالمئة «أربعة وأربعين شخصًا فقط»، بل وأكدت دراسته أن الموهوبين قد أبدعوا رغم المرض وليس بفضله!.
العلم لم يستطع أن يفسر بالدقة مصدر الموهبة التى تشتبك على مساحة مترامية بعناصر نفسية ومادية مجهولة، ولذلك علينا أن نحدد، ليس مصدر الموهبة، لكن طبيعتها، حكمًا بنشاطها الإبداعى، فى تعريف الموهبة أجدنى قريبًا إلى ما قاله الروائى الأرجنتينى أرنستو ساباتو: «المبدع هو الذى يرى فى الأشياء المعروفة تمامًا أشياء غير معروفة»، أى أن تكون للموهوب طريقته الخاصة التى يرى بها البشر والأحداث بشكل مختلف عما هو ظاهر.
وعلى سبيل المثال، كان من المألوف فى شوارع القاهرة أن تمر صبية خادمة صغيرة السن، تحمل على رأسها صينية بطاطس أو كعك العيد متجهة بها إلى الفرن، لم يكن ذلك المشهد يستوقف أحدًا، كان مشهدًا مستقرًا فى الوجدان لا يدعو للتفكير بشكل مغاير، لكن يوسف إدريس رأى فى المنظر شيئًا لم يتوقف عنده الآخرون، رأى شوق طفلة تشاهد الأطفال يلعبون وهى محرومة من اللعب، فكتب لنا قصته الشهيرة «نظرة» فى مجموعته «أرخص ليالى».
وفى عام ١٩٦٠ كانت القاهرة كلها تتابع أنباء لص شهير روّع الجميع يُدعى «محمود سليمان»، وكان وفق الرؤية العامة مجرد لص، لكن نجيب محفوظ رأى اللص بطريقة أخرى، فكتب رواية «اللص والكلاب»، التى أعادت خلق الحادثة والشخص فى نسق آخر، ليصبح محمود سليمان ضحية الغدر والثقافة المخادعة.
الموهبة أن ترى العالم بطريقة أخرى غير الطريقة السائدة، وقد كُتبت آلاف القصص عما يحدث حينما يقع اثنان فى غرام بعضهما البعض، لكن أنطون تشيخوف كتب، ليس عما يحدث، بل عما لا يحدث حين لا يحب اثنان بعضهما! كان ذلك فى قصته المدهشة «المعلمة»، لقد رأى الموضوع بطريقة أخرى على غير ما جرت العادة، وقدمه فى نسق جديد، تلك هى الموهبة التى لا نعرف مصدرها، لكن نحكم عليها بثمارها، والمؤكد أن الطبيعة ليست سخية فى منح تلك القدرة الخاصة، لهذا يثير الأسى أن تلقى شخصًا موهوبًا لكنه لا يعلم ذلك، ولا يدرى بقيمة ما اختصته به الحياة من عنصر مشع نادر.
وفى كل الأحوال، فإن أدباء من العظماء لم يراهنوا على الموهبة، وبذلك الصدد قال نجيب محفوظ، فى لقاء معه بجامعة القاهرة عام ١٩٨٩: «لم أُتوِّه نفسى فى اصطلاحات غامضة قد تكون وقد لا تكون مثل العبقرية.. الموهبة.. الإلهام.. الشىء المحسوس الذى أثق منه وفى يدى، هو العمل.. وأقصد هنا العمل بإصرار وقوة».
ويبقى السؤال الذى طرحه، فى كتابه «العبقرية»، أندرو روبنسون قائمًا: «ممّ تتكون الموهبة إذن؟ هل هى قدرة متوارثة؟ أم أنها شغف؟ أم عزم وتصميم؟ أم قدرة على المثابرة والممارسة؟ أم سرعة استجابة للتوجيه؟ أم أنها مزيج من كل ما سبق؟».
وتظل القضية التى تهمنى أن يكتشف الإنسان نفسه فلا يقضى حياته بموهبة دفينة، يعيش بجوارها، ولا يدرى بها.